“القومية السلبية” وراء قطع خط “نورد ستريم 1”
هيفاء علي
تصدّر عناوين وسائل الإعلام الغربية موضوع تعليق تسليم الغاز عبر “نورد ستريم 1” إلى أجل غير مسمّى بعد المشكلات الفنية التي تمّ اكتشافها مؤخراً، مع تسويق فكرة أن روسيا تريد مفاقمة أزمة الطاقة التي تقترب مع قدوم فصل الشتاء.
وبحسب المراقبين الأوروبيين، فإن أوروبا تعيش حالة من الذعر لم يسبقها مثيل جراء الأزمة الاقتصادية، وأزمة الطاقة المحدقة بها، علماً أن هذه الأزمة نتجت عن مزيج من الطاعة للعقوبات الأمريكية، والإغلاق غير المتوقع لخط “نورد ستريم 1”.
كان رئيسُ الوزراء البولندي مورافيكي طالب في أيار الماضي، قبل المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بأن تغلق ألمانيا من جانب واحد “نورد ستريم 1” قبل نهاية العام، ما دفع المراقبين للتساؤل: لماذا أرادت بولندا أن يحدث ذلك؟ لتكون إجابتهم على الفور أنه منذ البداية، دفعت هذه الدولة التي تطمح إلى الهيمنة على أوروبا الوسطى والشرقية إلى اتباع أكثر السياسات المعادية لروسيا راديكالية، وذهب قادتها إلى حدّ التباهي بأنهم وضعوا معياراً لعالم “الرهاب الروسي”.
السبب الأكثر إستراتيجية هو ما يتعلّق بالرغبة في تخريب محاولات الدول الأوروبية الكبرى تحقيق أقصى قدر من استقلاليتها الاستراتيجية، إذ تخشى بولندا من أن تفرض ألمانيا القوية رؤيتها للهيمنة على القارة، وجميع البلدان الأخرى، بدءاً من جارتها الشرقية. وهكذا قرّرت القيادة البولندية اتباع سياسة مزدوجة تتمثل في تقديم نفسها على أنها القوة الرئيسية المعادية لروسيا في أوروبا، لتصبح الشريك الرئيسي لتراجع الهيمنة أحادية القطب في القارة، بينما تحاول دفع ألمانيا إلى الانتحار الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن إغلاق خط الأنابيب قد يلحق الضرر بمصالح بولندا الخاصة، إلا أن وارسو تراهن على فكرة أن شعبها لن يحتج أكثر من ذلك، حيث يتمّ تلقينه عقيدة “القومية السلبية” كما هي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ترى بولندا أن مصالحها الاستراتيجية الأكبر، والتي تهدف إلى تقويض صعود ألمانيا على المسرح العالمي، أهم بكثير من مصالحها قصيرة المدى التي تضرّرت من قطع الغاز الروسي في القارة.
لقد خطّطت بولندا منذ البداية لجعل ألمانيا تتخذ منعطفاً خاطئاً، وتنفّذ سياسات تؤدي إلى نتائج عكسية من شأنها أن تُضعف من استقلاليتها الاستراتيجية في مواجهة الولايات المتحدة، ويتمثل التصميم الأساسي لهذه الإجراءات في حثّ الولايات المتحدة على تفضيل بولندا على ألمانيا باعتبارها تابعاً رئيسياً لها في أوروبا كمكافأة على الامتثال التام لمطالب واشنطن المعادية لروسيا، ولإجبار برلين على إضعاف استقلاليتها الإستراتيجية، ما يسمح للولايات المتحدة بإعادة تأكيد سيطرتها المهيمنة على القارة بأكملها.
في السياق، انخفض اليورو إلى أدنى مستوى خلال عقدين من الزمن مقابل الدولار نتيجة للحرب الهجينة الأمريكية البولندية المشتركة ضد ألمانيا، ما يعني أنه من غير المرجّح أن تتمكّن هذه القوة من التنافس مع الدول مرة أخرى. كما توقعت بولندا، من خلال أهداف زعزعة الاستقرار هذه، أن تقود ألمانيا إلى إضعاف نفسها وإضعاف الاتحاد الأوروبي، وأن تكون قادرة على تحميل نفسها المسؤولية عن ذلك، من أجل ضمان إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية على القارة، وتجنّب أي تقارب مع روسيا إلى الأبد.
مهما بدا هذا السيناريو بعيداً حتى وقت قريب، فقد كان من الممكن نظرياً لألمانيا إصلاح علاقاتها مع روسيا بعد مرور بعض الوقت، طالما ظلت الأسس الاقتصادية للزعيمة الفعلية للكتلة الأوروبية مستقرة نسبياً، وهكذا تبقى قادرة على الاحتفاظ ببعض الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية المتراجعة. ولهذا السبب على وجه التحديد، أرادت بولندا من ألمانيا إغلاق “نورد ستريم 1″، لكن من حق الأوروبيين معرفة أن كل هذا هو نتيجة الحرب الأمريكية البولندية الهجينة ضد ألمانيا، سعياً وراء الأهداف الاستراتيجية حتى لو كان ذروة الأزمة، بعد التذرّع بالمشكلات الفنية، دفع برلين للوقوع في فخ إغلاق الصنبور نفسه.