“النّقد وإشكالياته.. التّناص أنموذجاً” عنوان عريض لندوة ناقصة
نجوى صليبه
لطالما أثرنا موضوع إشكالية النّقد الأدبي في سورية بشكل دائم ومستمر في مقالات وتحقيقات صحفية سابقة، كان حضورنا لندوة حول الموضوع ذاته – أقيمت في المركز الثّقافي العربي بالعدوي – متّخذة من “التّناص” أنموذجاً، لكن على أهمية الطّرح لم يأخذ حقّه من حيث التّركيز عليه والاستعانة بالأمثلة القديمة والحديثة، وربّما شرحها ومن حيث الالتزام بالوقت المخصّص للضّيوف، فالبعض لم يجد ضيراً من مقاطعة أهل الاختصاص ليفرد عضلاته التّحليلية في أمر لا يمتّ للطّرح بصلة، مع الإشارة إلى أنّ التّأخر نصف ساعة أصبح لازمة في بعض المراكز الثّقافية، ولا أدري، أجد أنّه من الإنصاف القول إنّ “تناصاً” حصل بطريقة ما وألخّصه بالقول: يشتكي أدباء من مقاطعة مذيعات لهم أثناء استضافتهم في برامج حوارية وتكلّمهن أكثر من استماعهن!
وفي تعريفها للنّقد وإشكالياته، تقول الدّكتورة منى داغستاني: يقوم النّقد على متن أدبي وهو النّص، وقراءة النّصوص ليست مهمةً بسيطة ولا سهلةً بل بحاجة لقدرات وأدوات تختلف من ناقد إلى آخر ومن قارئ إلى آخر، والقراءة نشاط فعّال وإعادة إنتاج، والقراءة النّقدية التي نقصدها إيجابية فعّالة تجاور النّصّ وتناقشه وتخترقه وتعيد إنتاجه وخلقه من جديد ولا ترى فيه سطوحاً بيضاء أو صمّاء أو صخوراً سوداء، بل عالماً يضجّ بالنّشاط ويطرح دلالات واحتمالات وهو بحاجة دائمة إلى التّأويل، مضيفةً: دور النّقد لا يقلّ عن دور التّأليف ذاته، والقراءة النّقدية الخاصّة ليست واحدةً إزاء النّصّ الواحد لا بالنّسبة للنّاقد الفرد ولا بالنّسبة لمجموعة نقّاد، وهناك قراءة الشّكّ والفهم والتّفسير والتّركيب وغير ذلك، منوّهة بأنّ الكاتب يصبح مجرّد قارئ لنصّه بعد أن يفرغ منه ويصبح من حقّ قرّاء يقدّمون قراءات متباينة ولا جناح عليهم في ذلك ما دامت جميع الاحتمالات جاءت في حدود النّصّ ولم تُفرض من الخارج، وأنّ تعدّد القراءات ووفرة الاحتمالات وشروطها وإشكالياتها يجعل النّقد مغامرةً من نوعٍ خاصّ لها مذاقها.
وفي الوقوف عند أسباب إشكاليات النّقد الأدبي الحديث، تبيّن داغستاني أنّ أحد أسباب هذه الإشكاليات هي التّطوّر الذي يطرأ على قيم النّقد في ظلّ التّطوّر العامّ الذي يطرأ على الثّقافة والأدب، فالمقاييس والمعايير التي اشتقت من نماذج أدبية محدّدة كانت تصلح لزمان ما ولا تناسب زماناً آخر، وتضيف: يحدث أنّ نقاداً يقدّمون قراءاتهم بالنّصوص الجديدة وهم مزوّدون بمعايير ألفوها ويأبون التّخلّي عنها فيلوون أنساقها وأعناقها ويظنّون أنّ النّقص والعيب فيها وليس في معاييرهم، مذكّرةً بأنّ هناك من يقدّم نقداً لا علاقة له بالنّص الأدبي.
وتشير داغستاني إلى صعوبة نقل المصطلح من الغرب إلى الشّرق ما يسبّب الوقوع في إشكاليات كثيرة. تقول: لقد صار الخطاب النّقدي المعاصر يستخدم مصطلحات خاصّة به، وما ذلك إلّا معانقة للعلوم الأخرى من فلسفة وعلم اجتماع وجمال ونفس وغيرها، مع العلم أنّ الاختصاص بالنّقد العربي شرط من شروط النّقد بعيداً عن التّداخل، مؤكّدة: تشهد صناعة المصطلح النّقدي انفجاراً كبيراً، فمن النّقاد من يميل إلى التّراث العربي، ومنهم من يفضّل أن يكون المصطلح أكثر حداثة، ولعلّ غياب التّنسيق بين النّقاد العرب هو سبب الفوضى التي يعيشها المصطلح العربي.
وبالسّؤال عن مصطلح أو فكرة موت المؤلّف، يجيب الشّاعر إبراهيم منصور: موت المؤلّف هو موت مجازي، ويجب علينا دراسة النّص كنصّ بمعزل عن كاتبه وظروفه وتاريخه ومشكلاته السّابقة، وهي مقدمة لتحليل دلالي بمعنى أنّ النّص ليس له معنى ثابت أو نهائي، نحن نريد للمؤلّف أن يموت لكي يحيا النّص في دلالة مستمرة وصولاً إلى إحياء القارئ، ولا يمكن إحياء القارئ إلّا من خلال موت المؤلّف، القارئ الحرّ والمبدع يعيد إحياء النّص من جديد وفقاً لفهمه وأفكاره.
بينما ترفض داغستاني فكرة موت المؤلّف وتجيب عن سؤال إمكانية نقد النّقد فتقول: لست مع موت المؤلّف، لكن أرى أنّ النّص بحدّ ذاته هو رؤيا للخلق والإبداع وهو بؤرة للخلق والإبداع، أمّا موضوع نقد النّقد فشائك ومتعرّج.
ومن المصطلحات التي أخطأ النّقاد العرب في ترجمتها ولم يشتغلوا لاحقاً على تصحيحها “التّناص”، وعلى ما يبدو أنّه لم يكن هناك نيّة لإعطائه حقّه أكثر حتّى في النّدوة، لكن استطاع الشّاعر غدير إسماعيل – أخيراً – اقتناص وقته والتّحدّث في الأنموذج الذي كان من الضّرورة التّوسّع بتفاصيله وترتيب أفكاره وتقديم أمثلة أكثر، ولاسيّما أنّنا نعيش في زمن يكثر فيه الشّعراء ويقلّ الشّعر، يقول: أنا أخالف من يقول إنّ النّقد الذي يعتمد على الذّائقة لا يعوّل عليه وفي الوقت ذاته اتّفق معه، ذائقة الشّخص مهمّة جدّاً وربّما تكون عالية تستوعب ما تستوعبه من الكتب والمؤلّفات النّقدية ويكون خطّها النّقدي دقيقاً من دون معيار ويعطي قيمةً كبيرةً، وربّما تكون فارغةً وتكتفي بما سمعته من مفردات، وهذا ما رأيته في أمسيات عديدة، هذا النّوع من الذّائقة لا يعوّل عليه، مضيفاً: النّص يوحي لقارئه وهو يختلف عن التّجربة الشّعرية الكاملة، فنقد التّجربة بحاجة لدراسة كبيرة ولا يمكن الخروج بحكم نقدي دقيق من قراءة واحدة، أمّا نقد النّصّ فيمكن الحكم عليه بشكلٍ انطباعي إذا كانت الذّائقة سليمة مبنية على أسس نقدية وافية وكافية، أمّا التّناص فأنا غير مقتنع بالمصطلح وأرفضه، لأنّ ترجمته من الإنكليزية يعني “تضمين النّص”، والمشكلة أنّنا أخذنا المصطلح من الفرنسية إلى الإنكليزية إلى العربية، وهكذا وصل إلينا منحرفاً عن الأصل الذي وضع عليه والسّبب قلّة القراءة من مترجمه لأنّه يهتمّ بقشريته، وهذا ما تحدّثنا عنه في إشكالية التّرجمة، والمفارقة الكبيرة التي لم يفهمها كبار نقّادنا هي أنّهم يتعاملون مع المصطلح الغربي على أنّه عربي.
ويتابع إسماعيل: التّناص ليس سرقةً ولا تضميناً ولا سلخاً وليس كلّ هذه المصطلحات العربية التي أثروا مكتباتنا بها وأعلوا مراتبها كي تناسب زمنهم، والتّناص هو وجود نصوص في نصّ، وما خفي عن نقّادنا العرب هو أنّ التّناص اقتباسات ليست موضوعة بين قوسين، والشّاعر يكتب لكن القارئ هو من يكتشف التّناص.
إذاً، نحن أمام إشكاليات كثيرة ولا يمكن حلّها بعنوان عريض لندوة تأخذ منه فكرتين أو ثلاثاً. تقول داغستاني: نحن بحاجة إلى قلب المعادلة وصنع معادلة جديدة يكون النّص فيها هو نقطة الانطلاق والمنهج هو الإجراء النّقدي الذي يناسب العالم وليس الإجراء الذي يفرض على العالم خطاباً ومتناً، نحن بحاجة إلى نقد يختار النّص فيه منهجه، والعمل هنا يكون على منحيين، الأوّل: أن يتحاور المنهج مع ذاته وينتقد ذاته وأدواته المعرفية، ثمّ يتّجه إلى الآخر ويحاوره فيتدارك مواطن الضّعف والقصور ويعرف مواطن القوّة، أمّا المنحى الثّاني فهو محاولة إقامة تركيب متوازن بين القسمات المشرقة لكلّ منهج واستعمالاتها، وذلك من أجل خلق تعدّدية تتجاوب على مستوى الأفكار والمناهج وتتجاوز بذلك قصور كلّ المناهج أحادية النّظرة.