يبقى الإنتاج هو المعزز لقوة الليرة!
البعث الأسبوعية – المحرر الاقتصادي
بلا أدنى شك أن ثمة مبررات دفعت مصرف سورية المركزي لرفع أسعار صرف الدولار مقابل الليرة السورية، من 2814 إلى 3015 ل.س لسعر الصرف الوسطي، وسعر صرف الحوالات من 2800 إلى 3000 ل.س وسعر دولار البدلات إلى 2800 بعد ما كان 2525 ليرة سورية، ولعلّ أبرزها تقليص الفجوة السعرية بين السوقين الرسمي والموازية، في محاولة منه لضبط الأخيرة ولو نسبياً، وذلك ضمن مسار سياسته النقدية الرامية إلى استقرار سعر الصرف!
جدل!
بمجرد إعلان المركزي عن تعديل أسعار صرف الدولار سرعان ما أثار جدل هنا، وتحفظ هناك، وبين هذا وذاك برزت بعض الآراء المؤيدة لخطوة طالما نُعتت بـ”الحساسة” ليس في سورية فحسب بل في كل دول العالم، وذلك نظراً لارتباطها الوثيق بالقوة الشرائية، ولانعكاساتها الفورية على الأسواق، بغض النظر إن كانت المواد ممولة من قبل المركزي أم لا، كما هو حاصل اليوم إذ أن تمويل المستوردات مقتصر على عدد محدود جداً من المواد وذلك وفقاً لما أكدته وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في بيان أوضحت فيه “أن نشرة الأسعار التي أصدرها مصرف سورية المركزي لاتؤثر إلا بالمواد التي يتم تمويلها من قبل مصرف سورية المركزي وهي حصراً القمح والأدوية النوعية وحليب الأطفال ولا تؤثر إلا على مستوردات مؤسسات الدولة من هذه المواد، وبالتالي فإنّ رفع اسعار أيّة مادة أو منتج غذائي أو غير غذائي غير مبرر ويعرض من يرفع سعره إلى العقوبات المنصوص عليها في المرسوم التشريعي رقم ٨ للعام ٢٠٢١ وغراماتها والحبس لمدة تصل إلى سبعة سنوات” مع الإشارة إلى أن الوزارة طلبت من الجميع من رفع سعره إلى إعادته لما كان عليه!.
نظرياً!
نظرياً -وبناء على ما سبق- يفترض ألا تشهد الأسواق أي ارتفاعات بالأسعار، لسبيين الأول هو ما أو رده بيان وزارة حماية المستهلك، والثاني هو أن أغلب السلع الموجود بالسوق حالياً يتم تمويلها من قبل التجار أنفسهم، أي أنه يتم بيعها وفقاً لسعر صرف السوق الموازية، وليس الرسمي، فضلاً عن أن قيمة التعديل تقاري 200 ليرة للدولار!
واقعياً!
أما على أرض الواقع نبيّن أنه في الوقت الذي يتوافق مدير في إحدى المصارف الخاصة مع بيان وزارة حماية المستهلك لجهة عدم تأثر أسعار السلع غير الممولة بإجراء المركزي، إلا أنه حذر من ردة فعل وقائية من قبل التجار، ولجوؤهم لرفع أسعار موادهم وسلعهم بشكل أتوماتيك ودون أي مبرر، وذلك حتى يبقوا في منطقة الأمان وفقاً لوجهة نظرهم في مثل هذه الحالات، علماً أن مستورديها يلجأون بالأساس إلى السوق الموازية للحصول على الدولار لتمويل مستورداتهم!
نقطة هامة!
النقطة الأهم في الموضوع وربما الأخطر لجهة انعكاس إجراء المركزي على ارتفاع الأسعار، تكمن في النشرة الخاصة بالجمارك والطيران والتي عادة تعدل مع أي تغيير في سعر صرف الليرة ضمن نشرة وسطي نشرة المصارف ونشرة سعر صرف الحوالات، وسرعان ما أثيرت عقب تعديل المركزي لأسعار الصرف، فإذا تم تعديلها وفق تعديل المركزي فهذا يعني ارتفاعاً في قيمة الرسوم الجمركية التي تدفع على المستوردات والمحددة بحوالى 7٪، وبالتالي ارتفاعاً نوعا ما في أسعار السلع المستوردة في السوق المحلية لكون المستورد سيرفع قيمة بضائعه لتغطية الارتفاع الحاصل في قيمة الرسوم الجمركية!
لكن!
إذا ما سلمنا جدلاً أن أية زيادة في التكاليف سيوازيه زيادة في الأسعار، وأن ارتفاع في قيم الرسوم الجمركيةستؤدي إلى زيادة الأسعار، فإن ثمة حيثية لا بد من التوقف عندها مفادها أنه يجوز أن تكون الزيادة بنسبة 7%، أي موازية لرفع سعر صرف الدولار، لأن قيم الرسوم الجمركية متفاوتة ما بين 5 – 30% حسب نوع السلعة، فقيم الرسوم الجمركية في المواد الغذائية تقترب بالعموم من الـ15%، وللتوضيح أكثر نبين أن قيم الرسوم الجمركية لمادة الشاي على سبيل المثال لا الحصر تبلغ 14%، وبالتالي فإن معدل الزيادة التي ستطرأ على تكلفة استيراد هذه المادة تقدر بـ2%، وذلك وفقاً لشهادة أحد التجار بهذا المجال!.
تأييد!
في خضم الجدل الحاصل حول إجراء المركزي، برزت آراء عدة متحفظة عليها كما أسلفنا، والسبب وفق أصحابها أن انخفاض القوة الشرائية لم تعد تحتمل أية قفزات جديدة في الأسعار، لاسيما إذا ما علمنا أن الكثيرين من التجار جاهزون لاستغلال مثل هذا الإجراء، ولا يتوانون عن اعتباره شماعة لرفع أسعار سلعهم بغية تحقيق أرباح إضافية!.
لكن في المقابل هناك من أيّد خطوة المركزي، واعتبرها بالاتجاه الصحيح، لاسيما أن المصرف المركزي لم يدخر جهداً لضبط سعر الصرف وكبح جماحه، وهنا يشير المصرفي قاسم زيتون إلى أن إجراءات المركزي المتشددة خلال الفترة الماضية حالت بشكل كبير دون خروجه عن السيطرة، مشيراً إلى أن الفرق بين السعرين الرسمي والموازي أحد أهم الأسباب التي دفعت المركزي لاتخاذ هذا الإجراء، لأن اتساع الفارق يحدث ضرراً كبيراً، وفي تعليقه على أن قيمة الرفع ليست كبيرة بين زيتون أن المركزي يغامر في رفع السعر الرسمي أكثر من ذلك، معتبراً أنه لا يمكن اتهام المركزي في هذه الحالة أنه يتبع السوق ولا يتحكم به، بل العكس تماماً فإن ارتفاع سعر الصرف عند الحدود الحالية فقط هو بفضل سياسات المركزي المتشددة للحفاظ على سعر صرف بالحدود الممكنة.
من زاوية أخرى!
لاشك أن الاقتصاد السوري يمر بأزمة غير مسبوقة، وما انخفاض سعر الصرف وتدهور الليرة سوى أحد مفرزات هذه الأزمة، لكن إذا ما نظرنا إلى هذا الموضوع من زاوية أخرى فسنجد أن وضعنا الاقتصادي مقارنة مع الأزمة لا يزال بحدود المقبول على أقل تقدير، بدليل أن رواتب وأجور الموظفين لم تتوقف إلى الآن، إضافة إلى أن السلع والخدمات لا تزال متوفرة بالأسواق، وإذا ما تحدثنا عن مؤشر سعر الصرف وعدم استقراره فإن ذلك أسباب ومسببات أبرزها المضاربة والتهريب، ما ساهم بالنتيجة إلى زعزعة ثقة المواطن بالوضع الاقتصادي بشكل عام وبالليرة بشكل خاص، ولاسيما في ظل مسارعة الكثيرين إلى استبدال مدخراتهم بالدولار والذهب والعقار خشية انحدار سعر الصرف إلى أدنى درجاته، ونعتقد أن مرد هذا الأمر يعود لوجود فئة من التجار هي بالأساس انتهازية ولم تخف وجودها يوماً في مفاصل اقتصادنا الوطني.
فرص
أمام هذا الواقع لا يزال الإنتاج هو المعطى الأكثر لمعاناً لتعزيز سعر الصرف، وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان، لكن ثمة من يعطي وصفة علاجية أخرى موازية لوصفة الإنتاج تلائم ظروف هذه المرحلة، تتمثل بتحديد الفرص الذهبية والفضية والبرونزية لتشغيل الدولارات وضخها في شرايين الاقتصاد السوري، والتمييز بين المستثمرين الحقيقيين لها لإعادة تسييلها وتحقيق القيم المضافة والمتوخاة منها، عبر تشغيل المصانع المتوقفة وإحداث المشاريع الكفيلة بإمداد السوق المحلية بما يلزم من مواد وسلع، وبين المضاربين الساعين لانتهاز الفرص على حساب المصلحة الوطنية وقوت المستهلك.
فقرار الضخ الصحيح إلى القنوات السليمة سينعكس إيجابياً على سعر الصرف من ناحيتين الأولى تعزيز الثقة بالليرة السورية والتي تتولد لدى المستثمر الحقيقي عندما يدرك تماماً أن لدى السلطة النقدية ما يكفي من القطع لتمده بما يحتاج منه لكي يدير أعماله، وعندما يلمس المواطن السوري بأن هذا المستثمر قد استطاع توفير ما يلزمه من احتياجات سوف تعود ثقته بالليرة السورية وبأن الحكومة قادرة على القيام بالتزاماتها الاقتصادية.
وتتعلق الناحية الثانية بتمويل المستوردات في حال دخولها إلى السوق وأصبحت بمتناول يد المستهلك الذي سيجد أن السوق لم تتغير وأن السلع بدأت تعود إليه بأسعار مقبولة، وبالتالي لا خشية لديه من أن الدولة ليس لديها موارد لتأمين احتياجات مواطنيها.
نظرة متفائلة
ولعلّنا نلمس بحديث بعض خبراء الاقتصاد شيئاً من التفاؤل بما ستؤول عليه المرحلة القادمة خاصة أولئك الذين لا يزالون يعتبرون أن الاقتصاد السوري -رغم ما ألمّ به من تداعيات- لم ينهار، فهو من وجهة نظرهم يمر بأزمة بعضها وهمي له علاقة بتدهور سعر الصرف إلى أبعد الحدود، وبعضها الآخر حقيقي والمتمثل بخروج عدد من المنشآت الاقتصادية عن الإنتاج نتيجة الأوضاع الراهنة ما تسبب بانخفاض العرض مقابل الطلب، وهذا الأمر مقبول وطبيعي جداً في مثل هذه الظروف، لكن في النهاية تبقى الليرة السورية هي أولاً وأخيراً رمزاً وطنياً قبل أن تكون مؤشراً اقتصادياً، يستدعي اعتماد حسماً اقتصادياً لوقف نزيفها، والعوامل المساعدة في هذا المجال كثيرة، ولتكن البداية من الزراعة والصناعة سوية، من خلال التركيز على الصناعات الغذائية والاشتغال على التصدير لها وللمنتجات الزراعية في آن معاً، بالتوازي مع ضرب أركان المضاربين والمهربين فهم الأكثر خطورة بتدهور سعر الصرف، وهذا الأمر يحتاج إلى إجراءات حاسمة لا تقبل التهاون أبداً مع المتورطين في هذا المجال!