دراساتصحيفة البعث

أخطاء إستراتيجية لإرضاء خيارات سياسية

عناية ناصر 

تبنى الاتحاد الأوروبي، المتحالف بشكل تام مع الولايات المتحدة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، سبع حزم من العقوبات ضد موسكو بهدف معلن يتمثل في إضعاف اقتصادها واستنزاف قوتها. ومع ذلك لم تساهم العقوبات، بشكل مباشر أو غير مباشر حتى الآن، إلا في تأجيج وتفاقم أزمة تضخمية لا سابق لها في أوروبا، بينما تتسبّب في أضرار أقل من المتوقع للاقتصاد الروسي.

بدأت زيادة التضخم بالفعل في النصف الثاني من عام 2021، ومع ذلك، فقد أزال الصدام بين الدول الغربية وروسيا أي احتمال بأن التضخم اللولبي قد ينتهي بشكل طبيعي خلال عام 2022 أو 2023، فالإجراءات المحتملة التي أعلنتها حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا تترك مساحة كبيرة للخيال، بدءاً من  تقنين إمدادات الغاز، إلى تخفيض في إمدادات الكهرباء في الأماكن العامة والمنازل، وفرض سقف سعر على المستوى الأوروبي، إذا كان من الممكن الحصول عليه. تنبئ كل هذه الأمور بحدوث كارثة حقيقية لن يكون سكان أوروبا على استعداد لتقبلها ببساطة، فبعد المظاهرات الأولى في إسبانيا، وجمهورية التشيك وألمانيا، يتمّ تنظيم مظاهرات أخرى وقد يصبح الخريف الأوروبي غير مستقر اجتماعياً وسياسياً.

يبدو أن وضع “سقف لأسعار الغاز” أمر صعب المنال في الوقت الحالي، بسبب عدم التوصل إلى اتفاقية أوروبية أولاً، ولأن الرئيس الروسي بوتين قد أوضح أنه مستعد لقطع الإمدادات في حالة موافقة دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 على خفض السعر المحدّد في العقود قبل بدء الحرب في أوكرانيا ثانياً.

إن الاندفاع والزخم الذي تتعامل به أورسولا فون دير لاين ومفوضيتها مع الوضع يوضح حقيقة لا يمكن دحضها، وهي أنه لا يمكن الاستغناء عن الغاز الروسي في سوق الاتحاد الأوروبي. وإذا كان تنويع الموردين يمثل استراتيجية رئيسية، فإن التقليل المفاجئ للإمداد من شركة “غازبروم” يعني تعريض مئات الآلاف من الشركات وملايين الوظائف للخطر.

في إيطاليا، تأتي أسوأ التوقعات من مؤسّسة “كونفارتيجياناتو” والتي تضمّ الشركات الصغيرة والمتوسطة فى إيطاليا، وتتوقع وقوع “مذبحة حقيقية للشركات”، ففي 9 أيلول الحالي، صرح ماركو جرانيلي رئيس مؤسسة “كونفارتيجياناتو” أن الطاقة الباهظة تعرّض 881264 مشروعاً صغيراً ومتناهي الصغر والتي يعمل بها 3529000 موظف للخطر، أي ما يعادل 20.6 بالمائة من التوظيف في نظام الأعمال الإيطالي، نظراً للتأثير الهائل والمتزايد لأسعار الغاز والكهرباء على الشركات في 43 قطاعاً.

كما قدّمت منظمات تجارية أخرى إحصاءات مثيرة للقلق، مثل “انيما كونفي إندستريا”، وهي الجمعية التي تضمّ العديد من الشركات الميكانيكية، والاتحاد التجاري الإيطالي، والذي يضم أكثر من 700 ألف شركة إيطالية، وأكدت أن اندفاع الطاقة والتضخم الوشيك عند 8 في المائة يعرّض حوالي 120 ألف شركة في قطاع الخدمات، و 370 ألف وظيفة للخطر. وهذه ليست سوى عدد قليل من الأرقام الدراماتيكية من بين العديد من التوقعات الدقيقة التي قدمها العديد من الخبراء والمهتمين في عالم التصنيع.

تهدفُ الخطة الوطنية لاحتواء استهلاك الغاز الطبيعي التي تنفذها وزارة التحول البيئي الإيطالية إلى تحقيق أقصى حدّ لإنتاج الكهرباء من المحطات التي تستخدم أنواعاً أخرى من الوقود غير الغاز، أي الفحم والسوائل الحيوية، وتقدر أن تحقيق أقصى حدّ في المحطات القائمة (الفحم والنفط) سيسهم، من آب 2022 إلى آذار 2023، في خفض استهلاك الغاز بنحو 1.8 مليار متر مكعب. وبالتالي، ستعمل ست محطات طاقة تعمل بالفحم وواحدة تعمل بالنفط في مناطق معرّضة بالفعل للخطر بشدة من وجهة نظر بيئية، وقد تأثر بعضها بالنزاعات القديمة بين المواطنين والشركات. هل يعني ذلك التخلي عن انتقال الطاقة والاتفاقيات الدولية؟ وإلى متى ستستمر الأخطاء الإستراتيجية الأوروبية لإرضاء الخيارات السياسية التي تتعارض مع مصالح البلدان المعنية؟

لقد تمّ الإعلان عن الكارثة من قبل العديد من المحللين، وستضيف إلى الوضع المأساوي للصراع الذي لم تتمكن السلطات الأوروبية من بناء أي قناة حوار جادة من أجل التوصل إلى حلول وسط حقيقية لمصلحة القارة بأكملها. على العكس من ذلك، يستمر التخطيط لشحنات الأسلحة بمنطق كارثي من المواجهة المباشرة مع روسيا.