قراءة في كتاب “موت الغرب”
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
تمثل شهادة باتريك بوكانن في كتابه “موت الغرب” تكذيب واقعي للغرب الذي أغرق العالم طوال نصف قرن بحقوق المرأة، والديمقراطية المتحررة من أي قيود. وفي شهاداته التي تمثل أدب الواقع، يعطي الكاتب درساً في “نقد الذات” الأمريكي، وأن الإمبراطورية الأمريكية لم تعد في أوج قوتها، مبرراً ذلك بأن الغرب يحمل في داخله بذور فنائه، وما يحمله المستقبل من واقع قاس استلهمه الكاتب من سقوط الإمبراطورية الرومانية بعد وقوعها فريسة لملذاتها وترفها الداخلي، قبل استبدادها وجبروتها على بقية الأمم.
اعتمد الكاتب باتريك بوكانن على الاستشهاد بتجارب المواقف السياسية التي عاشها طيلة حياته السياسية، إلى جانب السخرية التي تبرز أماكن الخلل فيما يعرضه من قضايا بأسلوب يتقبله القارئ الغربي الذي يتغاضى عن أصل علته الإنسانية، في ظل هيمنة الثقافة العلمانية النفعية على واقعه المعاصر.
باتريك بوكانن هو سياسي ومفكر أمريكي، عمل في منصب مستشار لثلاثة رؤساء أمريكيين، وهو كاتب لعمود صحافي دائم في عدد من الصحف الأمريكية، ومؤسس لثلاثة من أشهر برامج التلفزيون في أكبر قناتين أمريكيتين “إن. بي. سي”، و” سي. إن. إن”، وقد ألف العديد من الكتب منها: يوم الحساب، وحالة طارئة، وعندما يصبح الصواب خطيئة، والخيانة العظمى، لكن الكتابان المشهوران جداً :محق منذ البداية، وجمهورية لا إمبراطورية، كونهما الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.
يبشر الكاتب بانتهاء الغرب، وينبه إلى أن الموت الذي يلوح في الأفق سيأتي في ثلاثة سياقات هي:
- موت أخلاقي بسبب إلغاء القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية، واستناد النظام الرأسمالي منذ نشوئه على الفردية والنفعية والمادية.
- موت ديموغرافي وبيولوجي، أي “النقص السكاني بالموت الطبيعي”، بسبب تأثر الغرب الرأسمالي بنظرية “مالتوس” التشاؤمية، وهو أحد مؤسسي فكر النظام الرأسمالي، والتي تقوم على تحديد النسل، وعدم الزواج والإنجاب، وتبرير الحروب والمجاعات …. الخ.
- انهيار منظومة النظريات التي قام عليها النظام الرأسمالي الغربي في التبادل غير المتكافئ في العلاقات الدولية، مثل “نظرية المزايا النسبية” لـ مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث، وأيضاً ريكارو الذي تطور نظرية آدم سميث، إلى “نظرية المزايا المطلقة”، بحيث فرض على العالم أن يتخصص في إنتاج السلع والموارد التي تخدم تطور وتقدم الاقتصاد الرأسمالي، بحيث يحتكر الغرب الصناعات ذات القيمة المضافة العالية.
يؤكد الكاتب على فكرة اضمحلال القوى البشرية في الغرب، وإصابة ما تبقى منها بشيخوخة، وبالتالي من الضروري استقدام مزيد من المهاجرين الشبان، أو القيام بثورة حضارية مضادة تعيد القيم الدينية والأخلاقية إلى مكانتها التي كانت من قبل.
ويقول الكاتب: “إن الموت المقبل مخيف، لأنه وباء ومرض من صنع أيدينا ومن صناعة أفكارنا، وليس بسبب خارجي، مما يجعل هذا الموت أسوأ بكثير من الوباء الأسود الذي قتل ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عش، لأن الوباء الجديد لا يقتل إلا الشباب، مما يحول الغرب عموماً وأوروبا بشكل خاص إلى قارة للعجائز “!.
ولتأكيد فكرته، يعتمد الكاتب على إحصائيات رسمية، وخاصةً فيما يتعلق بالخصوبة، حيث يرى أنه إذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية على ما هي عليه، فإن سكان أوروبا سينقصون (207) ملايين في نهاية هذا القرن.
في المقابل، وفي الوقت الذي تموت فيه أوروبا، تشهد الهند والصين ودول أمريكا اللاتينية انفجاراً سكانياً لم يسبق له مثيل بمعدل 80 مليوناً كل عام، ومع حلول عام 2050، سيبلغ مجمل نموهم السكاني 4 مليارات إضافية، وهكذا، يصبح كابوس الغرب حقيقة، وتصبح أوروبا بكل بساطة ملكاً لهؤﻻء بعد وقت ليس بالبعيد.!
يقول الكاتب: “إن الأرقام تصبح مخيفة أكثر عند تناولها لتشخيص مرض النقص السكاني على مستوى الدول والأمم بعد 50 عاماً من الآن .ففي ألمانيا، سيهبط التعداد السكاني من (82) مليوناً إلى(59) مليون نسمة، وسيشكل عدد المسنين ممن تجاوزوا الـ 65 عاماً أكثر من ثلث السكان. أما إيطاليا، فستشهد تقلص عدد سكانها البالغ (57) مليوناً إلى (41) مليوناً، وستصبح نسبة المسنين 40 % من التعداد العام للسكان، وفي إسبانيا، ستكون نسبة الهبوط 25%.. ولا تختلف اليابان كثيراً في اللحاق بمسيرة الموت السكاني، فقد هبط معدل المواليد في اليابان إلى النصف مقارنة بعام 1950 وينتظر اليابانيون تناقص أعدادهم من (127) مليون نسمة إلى (104) ملايين عام 2050.
وهنا يطرح الكاتب سؤالاً، وهو لماذا توقفت أمم أوروبا وشعوبها عن إنجاب الأطفال، وبدأت تتقبل فكرة اختفائها عن هذه الأرض بمثل هذه اللامبالاة ؟. يقول باتريك بوكانن: “إن الجواب يكمن في النتائج المميتة لهذه الثقافة الجديدة في الغرب، والموت الأخلاقي الذي فرضته هذه الثقافة على الغربيين هو الذي صنع موتهم البيولوجي”.
وينهي الكاتب كتابه أيضاً بلغة الأرقام، معتمداً في فكرته على انهيار القيمة الأساسية الأولى في المجتمع، وهي الأسرة، وانحسار الأعراف الأخلاقية، ويعيد ويذكر بالأرقام المخيفة بالقول، ارتفع الرقم السنوي لعمليات الإجهاض في الولايات المتحدة من (6000) حالة سنوياً عام 1966 إلى (600.000) عام 1976 بعد أن سمح بالإجهاض واعتبرت عملية قتل الأجنة حقاً للمرأة يحميه الدستور !. أما نسبة الأطفال غير الشرعيين، فهي تبلغ اليوم 25% من العدد الإجمالي للأطفال الأمريكيين، ويعيش ثلث أطفال أمريكا في منازل دون أحد الأبوين. وهناك أيضاً مؤشر آخر خطير، فقد بلغ عدد حالات الانتحار بين المراهقين الأمريكيين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1960. أما عدد مدمني المخدرات، فقد بلغ أكثر من ستة ملايين شخص في الولايات المتحدة وحدها. أما قضية الشذوذ، وقانون الزواج بين أبناء الجنس الواحد، فهي كثيرة، حيث بلغت حداً لم يكن ممكناً مجرد تخيله في السابق، وقد كانت هيلاري كلنتون أول سيدة أولى في البيت الأبيض تسير في تظاهرة لـ ” المثليين” لإبداء تعاطفها مع قضيتهم ومطالبهم المشروعة.