تقسيم الولايات المتحدة الأميركية أفضل من الحرب الأهلية
البعث الأسبوعية – ميادة حسن:
مخاوف كثيرة تُثار في الداخل الأميركي حول حالة الاتحاد، فالغموض يلفّ الاستراتيجيات القادمة للسياسة الأميركية الخارجية والداخلية في آن معاً، والتورّط الأميركي في العديد من المناطق في العالم، ومنها أفغانستان التي تعدّ الحرب الأقذر والأطول التي أقيمت بتكلفة عالية جداً، وإلى الآن لم يستطع أي رئيس تحديد النهاية لها انتصاراً كانت أم تسوية أو حتى اتفاقاً للانتهاء منها، ويرافق هذه الإخفاقات الخارجية انقساماتٌ ونزاعات عرقية ودينية وصلت إلى مستويات مرتفعة من العنف في جميع الولايات، بل ساهمت بشكل كبير في الدعوة إلى تقسيم الولايات المتحدة.
المشهد في الساحات الأميركية الآن يشبه تماماً الأحداث التي مرّت بها في القرن التاسع عشر “مرحلة نشوب الحرب الأهلية”، وهذا ما تؤكّده الانقسامات حالياً حيث يمكن لنا أن نشير إلى أن البيت الأبيض هو فتيلها، وهنا يظهر الرئيس الأميركي جو بايدن رجلاً غير متّزن ولا يستطيع اتخاذ القرار المناسب لأزمته مع كوريا الديمقراطية، لكن في النهاية ليس لديهم إلا “استراتيجية النزاع” وهي الفكرة التي طالما لجأ إليها البيت الأبيض، وعلى الرغم من ذلك فإن الخلافات في الرأي وتعارض وجهات النظر والانشقاقات لم تعُد تخفى على أحد داخل البيت البيضاوي نفسه.
مجلس النواب الأميركي ليس بعيداً عن هذا المشهد المخزي لبلدٍ يعتقد أنه يحمل لواء الحرية، فالتشرذم الذي يخترق أعضاءه لم يسبق أن أخذ هذا المنحى الغريب من عدم التوافق وزيادة الخلافات والتعارض في وجهات النظر حول قراءة المشهد السياسي الداخلي التي تعدّ بشكل أو بآخر خلافاتٍ أزلية وجذرية في المجتمع الأميركي، ويذهب العديد من المحللين السياسيين إلى أن هذا الانشقاق الأميركي هو نتيجة حتمية لفكرة العولمة التي تسبّبت بالفجوات الاجتماعية والاقتصادية وحرّكت القضايا الدينية، إضافة إلى تغيير المعايير الأخلاقية وخاصة بين فئات الشباب التي خلقت انشقاقاتٍ مختلفة في المجتمع الأميركي، وأهمّها التفرقة العنصرية التي تجسّدت برفض تحية العلم من اللاعبين الأفارقة تنديداً بالعنصرية التي يمارسها البيض في كل الولايات.
تاريخ الولايات المتحدة الأميركية لا ينبئ بالطمأنينة لدى شعبها بعد سلسلة من الاحتلالات غير المجدية التي ساهمت في نشر العنف والقتل ودعم ثقافة الاعتداء والعنصرية، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الانقسامات وصلت إلى الأحزاب السياسية الرئيسة وطالت الحزبين الجمهوري والديمقراطي ودخلت في عمقيهما وبمختلف القضايا، وخاصة الأساسية للمجتمع كالهجرة والعنف وانتشار السلاح في الولايات وتغيّر المناخ والضمان الصحي والمثلية والتمييز العنصري.
أما تكساس فعادت مجدّداً لتطالب باستقلالها اعتراضاً على ما وصلت إليه الولايات المتحدة من عنصرية، ورفضاً لسياساتها الغامضة التي لم تصل بالمجتمع الأميركي إلى ما كان يسعى إليه من حرية وأمان، وخاصة أن البلاد تتجه نحو تضخّم مالي وأزمة اقتصادية خلقت طبقة أكثر ثراء وطبقة أشدّ فقراً.
أما الانتخابات الأميركية فقد كانت المعيار الحقيقي لقياس الحالة المجتمعية الفعلية، فقد تعزّز الانقسام في المجتمع على أساس عمودي نتيجة للخلافات الحادة بين الحزبين حول القضايا الرئيسية، فالأغلبية تؤيّد الجمهوريين حالياً على خلفية سياسات البيت الأبيض الأخيرة وأزمة الوقود والتضخّم وغيرها من الأزمات التي تعصف بالمجتمع الأمريكي، والمنافسة مع الديمقراطيين ليست بالمسالة السهلة، وهذا ما جعل فكرة الانقسام تتجذّر لدى الأغلبية من جمهوريين وديمقراطيين، والمسألة تحوّلت إلى إثبات وجود أكثر من كونها مجرّد انتخابات، والفجوة ما زالت في اتساع مع وجود التناقضات والخلافات التي وصلت إلى الشارع الأميركي بأكمله الذي يشكّ بهويته وانتمائه للولايات المتحدة الأميركية التي لا تظهر أنها متحدة بالفعل، حيث أصبحت البلاد خالية من الروابط المتينة التي تجمع الوطن أو الأمة، وهذا ما جاء على لسان المتخصّص بدراسات الأمن القومي ديفيد ريب، حيث قال: إن “الانفصال القومي باهظ الثمن، لكنّه يستحقّ كل بنس”، وهنا كانت دعوته للانفصال بكل أشكاله الاقتصادي والسياسي والثقافي واضحة، وبرأيه هذا الحل أفضل من فكرة الحرب الأهلية ونشر خطاب القتل وهدر الدماء وفتح الأبواب للعصابات والميليشيات للانتشار والعبث في الولايات، حيث ساهم الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين على خلفية الانتخابات الأخيرة وما شابها من تجاوزات واعتراضات في زيادة حدة الانقسام في المجتمع، وخاصة بعد أن أعلن الرئيس السابق دونالد ترامب رفضه لنتائج الانتخابات وبدأ سلسلة من حملات التحريض ضدّ بايدن وأطلق دعواتٍ واضحة للعنف وحمل السلاح.
وفي الحديث عن معالجة الانشقاقات وإيجاد الحلول لهذه الأزمة، فإن وجود مؤيّدي ترامب وعدم شعورهم بالرضا، بل شعورهم بالغبن عمّا حدث مؤخراً مع مرشحهم في النتائج الأخيرة للانتخابات الأميركية، يؤكد صعوبة إيجاد حلول مقترحة لهذا الانقسام، وخاصة أن هناك نحو 71 مليون أميركي يقف خلف أفكار ترامب وسياساته الخارجية، وهو ما يمثّل تحدّياً كبيراً أمام أيّ رئيس قادم، وحسب تود جيتلين أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولومبيا الأمريكية، فإنّ “أمريكا كانت دائماً منقسمة، وأعتقد أنّ الدولة الموحَّدة هي مجرّد أسطورة، كانت المعتقدات الأمريكية محلّ نزاع منذ البداية.. أعطني لحظة في التاريخ الأمريكي لم نكُن فيها منقسمين بعمق.. نحن لسنا مجرّد أمة عادية تأسّست على توافق حول قصة وطنية أو إجماع وطني”، وهذا يعني أن هناك إجماعاً في الداخل الأمريكي إلى حدّ ما على أن الولايات المتحدة قد تأسّست أصلاً دون وجود مقوّمات أساسية ومنطقية لنشوء الدول، بل هي دولة أصلاً قامت على مبادئ معيّنة لها علاقة أولاً باجتماع مصالح مجموعة بشرية معيّنة على مبادئ خاصة مرتبطة أصلاً بعقيدة “الكاوبوي” المعتمدة على السرقة والنهب والقوة.
وبالمقابل ثمّة مَن يعارض فكرة الانقسام من قادة الرأي ورجال السياسة، ويحذّر من الاضطرابات الداخلية والمشكلات الناتجة من هذه الفكرة، مؤكدين أن هناك دولاً تنتظر التفكك الأميركي بفارغ الصبر وترسم آمالاً حول انهيار قوة أميركا، وهم يدعون إلى التخلي عن فكرة الانقسام، لكن لا يبدو أن أصواتهم تصل إلى البيت الأبيض أو حتى إلى شرائح المجتمع الأميركية، فمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة تتناول فكرة التقسيم كضرورة للوصول إلى حقوق العديد من الولايات في اختيار أسلوب حياتها وعدم الخضوع للقرارات التي لا تتلاءم مع قيمها ومعتقداتها كالإجهاض وحمل السلاح وغيرها من القوانين التي تحوّلت إلى حاجز أمام عقائدهم وديانتهم.
وبالمحصلة، يبدو أن عجلة التغيير بدأت في السير نحو نهاية طبيعية لعمر الإمبراطورية التي قامت أصلاً على جماجم سكان البلاد الأصليين، واعتمدت طوال فترة ازدهارها على استغلال الشعوب الأخرى والتمييز العرقي والطبقي، الأمر الذي جعل زرع بذور الانقسام في داخل المجتمع منذ البداية، وبالتالي يبدو من الطبيعي فيما بعد تفكك الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية تراكم جميع المشكلات الآنفة الذكر.