جينات إبداعية
سلوى عباس
جمعتني الحياة بها كجارة في منزل مجاور لمنزلنا تفصل بينهما بضع بلاطات فقط، وكانت تكبرني بسنوات قليلة، وكنت ألتقيها صباحاً أثناء الدراسة فأتشارك معها فنجان القهوة بحليب الذي تعده والدتي لنا كمكافأة تحفزنا على الدراسة، ولم يخطر في بالنا أن نتحدث عن المستقبل الذي نحلم، ولا عن أي شيء له علاقة بالكتابة أو الإبداع، وكان أن أخذتنا الحياة كل في طريق، ثم أصبح اسمها يتردد في الصحف كشاعرة لها حضورها على الساحة الشعرية، فهي ابنة أسرة مثقفة وعمها شاعر كبير، لكن لم يخطر ببالي أن لوثة الشعر أو الإبداع قد تنتقل بالوراثة، وأخذت أتابعها ظناً مني أنها الوحيدة بين أخوتها التي تتعاطى الشعر إلى أن اكتشفت أن عائلتها كلها تتعاطى الإبداع بمختلف صنوفه، من شعر وفن تشكيلي وترجمة وأدب وغيرها من الفنون، وقد ساهم رواد الفضاء الأزرق بالترويج لنتاجاتهم، ويطلقون عليهم لقب شاعر/ة بعيداً عن المعايير التي تحكم الشعر، لتبقى منتجات ثقافية أدبية تفرز أحاسيس ومشاعر خاصة بصاحبها عبر تأثره بالمحيط الاجتماعي والبيئي والمعاناة الذاتية والملكات الفردية والاستعدادات النفسية والمؤثرات من حوله والنشأة، إذ لا يمكن تخريج شاعر من مدرسة تعلم الشعر وتزرع ملكاته ومواهبه مهما كانت على قدر من العطاء والقوة، وليس كل مبدع يظهر إبداعه وينتشر ويصبح عبقرياً، حتى وإن كان إبداعه على أعلى المستويات، فالمبدعون العباقرة هم من ملكوا القدرات والوسائل التي تدفع مجتمعهم لتقبل وتبني إبداعاتهم أكانت فكرية أم مادية، لذلك هم عباقرة.
وإذا تساءلنا عمّا إذا كان الإبداع بحد ذاته وراثة، فإنه بالتأكيد لا يمكننا إنكار تأثير الجينات على البشر، لكنه تأثير جزئي، فكثيراً ما نرى شعراء خرجوا من بيوت شعر وأثرت بهم ولكن لم نر شاعراً كان بحجم والده أو جده أو عمه أو خاله، فعادة ما يزيد مستواه عن مورثه أو ينقص، والاكتساب له المساحة الأكبر في حياة المبدعين، وعلى الرغم من وجود شعراء استطاعوا تحقيق شهرة توازي أو تفوق شهرة آبائهم، إلا أن أعداد الشعراء الذين استطاعوا الوصول إلى قمة النجاح والشهرة بكفاءتهم من دون الحاجة إلى الاعتماد على شهرة ذويهم قلة. وقد سألت مرة إحدى الشاعرات، وهي ابنة قامة شعرية كبيرة وكان منزله نادياً لجميع المثقفين، وقد لعب وجودها في هذا الجو الثقافي دوراً كبيراً في تشكل ثقافتها، وكان والدها كما أخبرتني يتعامل بذهنية شعرية حتى في حياته اليومية، وضمن هذه المعطيات كلها كانت تتساءل فيما إذا كان الشعر بالوراثة، رغم أنها لم تبدأ كتابة الشعر مبكراً، وأن كل ما كتبته سابقاً من خواطر ووجدانيات كان نوعاً من التدريب ومسودات لما أصبح حالها عليه مستقبلاً، حتى أنها كانت تخاف من فكرة نشر ما تكتب حتى لا تقيّم كتابتها من معيار أنها ابنة شاعر، إضافة إلى خوفها أن يكون ما تكتبه تقليداً لما يكتبه والدها الذي أحبت مفرداته الشعرية وتشربتها منذ زمن، وبذلك المعنى لن يكون ثمة جدوى لكتابتها إن كانت ستقلده.
وعودة إلى السؤال عمّا إذا كان الإبداع بشكل عام والشعر بشكل خاص يمكن أن يكون وراثياً، أرى أن ما نقرأه لشعراء وأدباء ينتمون لأسر أدبية يرتبط بمدى حساسية الفرد ذاته وقدرته على صياغة التعبير عن هواجسه ومشاعره وإيصال فكرته وتحديد رؤاه وتطلعاته ورغباته، وكل هذه تخصه هو ولا علاقة لأحد سواه بها، ولا يستطيع أحد من الناس صياغته كشخص لكي يكون كما كان.