صعود اليمين الأوروبي.. هل هو مؤشر على ولادة قوة أوروبية مستقلة؟
بشار محي الدين المحمد
صعود اليمين المتطرّف في أوروبا لم يعُد توقّعاً أو مجرّد تحليل، بل بات حقيقة تتعمّق منذ سنوات خلت، فهذا الاتجاه بات يحصد نتائج كبيرة في العديد من دول أوروبا ليستلم زمام السلطة دون منازع مع توقّع المزيد، وذلك كان نتيجة طبيعية للأزمات الاقتصادية التي مرّت بها أوروبا بفعل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا على خلفية عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا وازدياد أعداد المهاجرين بشكل كبير، والآن حان وقت حساب النتائج سواء على الدول أم على الاتحاد الأوروبي كله، مع توقعات كبيرة باستمرار تقدّم اليمين الأوروبي الذي يفرض تساؤلاً بدهيّاً: هل سيجعل ذلك الاتحاد الأوروبي على المحك، خاصة وأن اليمين لا يؤمن بالاتحاد الأوروبي ووحدته؟.
فالتوجّه اليميني الجديد نجح في السويد وهنغاريا واقترب من النجاح في فرنسا عندما اقتربت مارين لوبان من الفوز بالرئاسة الفرنسية بفارق نسبة أصوات بسيطة وبعدها تحقق فوز اليمين في إيطاليا يوم الأحد الماضي.
ومع كل ذلك حاول بعض المحللين السياسيين التخفيف من وطأة نجاح اليمين بالقول: إن اليمين الحالي ليس لديه مجال للمناورة وفرض أفكاره لأن أغلبية تيارات اليمين رفضت الخروج من اليورو، أو قطع أعمالها مع الاتحاد الأوروبي أو الاستغناء عن المعونة الأوروبية، ورأوا أن ذلك سيخفف من العداء في خطاب اليمينيين السابق.
مع ذلك يستفحل قلق الاتحاد الأوروبي من أن معظم أحزاب اليمين تتخذ موقفاً “ليّناً” تجاه روسيا بشأن عمليّتها الخاصة الأوكرانية، على عكس الأحزاب اليسارية التقليدية الداعمة لأوكرانيا في حربها لأبعد الحدود ودون حساب التبعات المرّة التي أدخلوا المواطن الأوروبي في خضمّها، وهذا يعني بشكل حتمي سقوط تلك الجبهة في أقرب وقت.
ومن ناحية ثانية، يجد ماكرون زعيم ثاني أكبر قوة اقتصادية في أوروبا نفسه معزولاً مع تقدّم اليمين في إيطاليا “ثالث قوة اقتصادية أوروبية”، ومع التوجّه الواضح لألمانيا بقيادة المستشار أولاف شولتس للبحث عن مصالحها عبر شق طريق مستقل، ويظهر ذلك من خلال الزيارات المتعدّدة التي قام بها إلى عدد من الدول بحثاً عن حوامل الطاقة لبلاده التي حُرمت من دفء الغاز الروسي، ولم يكن شولتس أبداً في مستوى التحدّيات التي تواجه الاتحاد.
ولكن هناك تساؤلاً يطرح نفسه، وهو أنه على مرّ السنوات تعيش هذه الأحزاب وتتغنى بانتقاد الحكومات والسلطة والسياسات الأوروبية، فهل ستكون قادرة بعد وصولها إلى السلطة على تخطّي الامتحان الكبير وتأمين الطاقة في ظل أزمة طاقة لم تشهدها أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي في حرب تشرين التحريرية، عندما أوجع العرب أوروبا والغرب باستخدام النفط كسلاح استراتيجي توازني؟، حيث يرى الكثيرون أن أزمة الطاقة هي أحد أهم أسباب صعود اليمين في أوروبا.
وعلى الرغم من ذلك، يرى بعض المحللين والخبراء أن أزمة الطاقة الأوروبية لم تبدأ أساساً، فهي ستصل بشكل فعلي ليس الآن وإنما بعد أسابيع، وليست هي السبب الحقيقي لصعود اليمين، بل السبب وفقاً لهم يعود إلى انعدام الأمن بكافة مظاهره بما فيه الثقافي، إذ إن جزءاً من الأوروبيين يظن أن دولته الحقيقية تختفي، في حين تظهر مجتمعات وقوميات وديانات بكل قوة في الشارع الأوروبي، مع تزايد المحظورات الدينية وصعود حركات وتيارات متطرّفة على الساحة الأوروبية، ناهيك عن عشرات المشكلات الاجتماعية وفي طليعتها مشكلة التقاعد، التي سبّبت في فرنسا على سبيل المثال زيادة التصويت لمارين لوبان، إضافةً إلى انخفاض مستوى المعيشة الذي أغفله ماكرون في حملته الانتخابية على سبيل المثال أيضاً، ومشكلات التضخم وغيرها.
إن فوز حزب “فراتيلي ديتاليا” من الفاشيين الجدد بقيادة جيورجيا ميلوني بالانتخابات التشريعية في إيطاليا، يبقى حدثاً غير مسبوق منذ عام 1945، ومن المتوقع أن يحصل حليفاه “الرابطة اليمينية” وحزب “فورزا إيطاليا” على أغلبية كبيرة في مجلسي البرلمان، فوفقاً لاستطلاعات الرأي الأولية، حصلت الكتلة اليمينية التي دخلت الانتخابات كمرشح واضح للفوز، على ما بين 41% إلى 45% من الأصوات، وبسبب خصوصية القانون الانتخابي الإيطالي، فإن تلك النسبة يجب أن تكون كافية للحصول على أغلبية التفويضات، والتحالف الذي يُشكّله الحزب مع كل من “الرابطة اليمينية المتطرّفة” بقيادة ماتيو سالفيني، وحزب “فورزا إيطاليا” المحافظ بقيادة سيلفيو برلسكوني، يُتوّقع أن يفوز بما يصل إلى 47% من الأصوات.
وكان واضحاً خلال الانتخابات الإيطالية الكم الهائل من التغطية الإعلامية للعملية الانتخابية، مع حالة ترقّب من العواصم الأوروبية لإعلان نتائج هذه الانتخابات في ظل خوفها وقلقها على الوحدة الأوروبية المهدّدة بشكل كبير، خاصةً وأن أغلب التوقعات تؤكد حدوث صدام وخلاف بين هذه الحكومة اليمينية والاتحاد الأوروبي، وذلك لعدة أسباب أهمها تداعيات الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها السلبية على مجمل الأوضاع في أوروبا بشكل عام وإيطاليا بشكل خاص التي تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، وسط توقعات بتعارض سياسة ميلوني الداخلية مع سياسات الاتحاد الأوروبي في الكثير من القضايا، وهذا ما ظهر من تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين بأن لدى الاتحاد الأوروبي أدواتٍ لمعاقبة الدول التي تنتهك سيادة القانون وقيمه المشتركة، فيما يشبه رسالة تُظهر أن القادم في العلاقات الأوروبية الإيطالية سيكون محل صدام وخلاف، ففي وقت سابق، هدّدت فون دير لاين بأنه إذا كان الوضع في إيطاليا “صعباً” بعد الانتخابات، فيمكن للمفوضية الأوروبية اتخاذ إجراءات على غرار تلك التي اتخذت تجاه بولندا وهنغاريا، حيث تعرّضت سلطات هنغاريا وبولندا للتهديد بالعقوبات الأوروبية لعدم امتثالهما لمعايير الاتحاد الأوروبي. ويعزّز تلك الفرضية أن ميلوني لديها علاقات مقرّبة وجيدة مع رئيس الوزراء الهنغاري الذي يتخذ مواقف مضادة ويعرقل قرارات الاتحاد الأوروبي فيما يخص الأزمة الأوكرانية.
وفي سياق آخر، يدعو اليمين المتطرّف أيضاً إلى تخفيف البيروقراطية وإغلاق الحدود ورفع نسب المواليد والتخفيف من تدفّق المهاجرين وتخفيض الضرائب وتعزيز القيم الدينية، وهذه القضايا ستكون أيضاً محلّ خلاف كبير مع الاتحاد الأوروبي دون شك.
ومن هنا، فإن صعود اليمين المتطرف إلى السلطة مجدّداً في أوروبا سيصدّع دون أدنى شك تلك الوحدة الأوروبية الهشة التي مرّغتها أمريكا بمستنقعات ومشكلات متعدّدة بغية إضعافها وضمان تبعيتها، فهل سيكون تصدّع هذا الاتحاد مؤشر ولادة قوة أوروبية مستقلة تنضمّ إلى أقطاب العالم الجديد المعادي للهيمنة الأمريكية؟.