فاروق وادي..!
حسن حميد
قيّضت لي المحبة، وأنا طيّ تجربتي الأدبية، أن ألتقي أدباء عشقتُ كتاباتهم لأنها كانت مسرات وأكثر، وعوالمها عوالم دهشة وأكثر، وبناءاتها أشبه بعمران القلاع والقصور وأكثر، ومن هؤلاء الأدباء جبرا إبراهيم جبرا، وخليل السواحري، وحنا مينة، وسليمان العيسى، ومحمود درويش، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وسميح القاسم، وتوفيق فياض، وفاروق وادي..، وقد كان كلّ واحد من هؤلاء عالماً خاصاً به له فرادته وجماله، مثلما كان لكلّ واحد منهم صورته التي قرّت في القلب تماماً.
التقيتُ فاروق وادي، الذي ارتحل مؤخراً، قبل نحو اثنتي عشرة سنة في الشام، جاء إليها زائراً مع زوجته المثقفة، وقد غنمت هذه المحظوظية فعشت وإياه ساعات طوالاً، وفرحت به كشخص حضاري، صاحب أثر في سلوكه، وكلامه، وثقافته، ورؤاه البعيدة.
فاروق وادي له هدوء يشبه هدوء جبرا إبراهيم جبرا، هدوء مستلّ من هدوء البراري والبيوت وقت استسلامها لمطر غزير، أو ثلج عفيّ يهمي، وخلف هذا الهدوء تمتد ثقافة أشبه بمغارة وسيعة خزّن أهلها فيها كلّ غالٍ وثمينٍ، لقد أصغيت لفاروق وادي طويلاً ودهشت حقّاً، مثلما أصغيتُ لـ جبرا إبراهيم جبرا طويلاً ودهشت.
كنتُ بحاجة وكيدة لأسمع من مثقف برتبة فاروق وادي ما لم أسمعه عن فترة الحضور الفلسطيني في لبنان، خلال عقد السبعينيات، أيّ أن أسمع صوت الفلسفة التي تتحدث بهدوء وروية وتأمل وتقليب للمسائل على وجوهها بعيداً عن الصخب والانفعال والأصوات العالية. قال لي: كنّا أصحاب مشروع حضاري، أسّسنا البنى الثقافية كلّها، من الكتابة إلى المنبر، ومن دار النشر إلى دار العرض، وارتقينا بالثقافة من أن تكون رصيداً إلى أن تكون صيغة عيش، وبذلك اجتذبنا أهم رموز الثقافة العربية طُراً، لا بل اجتذبنا بعض رموز الثقافة العالمية، وفي مجالات عدة، منها الكتابية، ومنها الفنية.
قلت لفاروق وادي، أنت أديب كثر الرهان عليه، وعبر مرات عدة، كان الرهان عليك كناقد أدبي من عيار عالٍ، حين أصدرت كتابك “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية” الذي تحدثت فيه عن جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وأميل حبيبي، فقلت عن تجاربهم ما لم يسبقك أحد إلى قوله، أنصفت جبرا إبراهيم جبرا الذي أراد بعض أهل النقد زلّ كتابته بعيداً عن المدوّنة الفلسطينية، فقلت: لا، إنها كتابة فلسطينية تقوم على الأزمنة والأمكنة والشخصيات الفلسطينية، وقلت: إن جمالية أدب غسان كنفاني جمالية متأتية من البناء والشغف بالعمارة الفنية، مثلما قلت: إن ما يكتبه أميل حبيبي أدب جديد رفيع في مستواه، لكنك لم تواصل تجربتك النقدية!. قال: كانت غايتي غاية من يشقّ الدرب نحو الغابة.
قلت: وكتابك “الطريق إلى البحر” جعل النقاد والقراء والمثقفين يراهنون عليك، بأن تواصل هذه الكتابة الجديدة عبر نص إبداعي جديد، يقوم على السرد، ولكن طعوم الشعر تلفّه، مثلما تلفّه طقوس الكتابة المسرحية والسينمائية، ولكنك لم تواصل التجربة!. قال: أنا أنفرُ من الكتابة الخطية. أنت، وحين تواجه الطبيعة، لن تجد أي شيء فيها له مسار خطيّ، الكتابة الأصيلة هي الكتابة التي تشبه الطبيعة أو البراري في مفاجآتها، ولا شيء مثل المفاجأة يصنع الجمال والسحر، حتى لو كان على نحو وحشي.
قلت: وفي مقالاتك التي ملت نحوها بكامل قامتك الثقافة، رأينا أن الهدوء هو من يكتبها، فلا صخب، ولا شغب، ولا ضجيج، ولا بكاء راجّ..، ترى أين خبأت حزنك ونحيبك، وأين واريت ارتجافات قلبك، وأنت تكتب؟. قال: لقد أردتُ أن أتحرّر من الانفعال كي أكتب عما استبطنه الرحيل، والفقد، والبكاء، وشغور الأمكنة، وتشققات النفس.
بلى، عمّني الحزن لرحيل فاروق وادي، فهو رحيل أشبه بجفاف البحيرات، وقطع أشجار الغابات، وخراب المدن، وغياب الفرح. لقد كان الرجل المفرد في هدوئه، وإبداعه، وحضوره السّاحر.
Hasanhamid55@yahoo.com