الشّعراء يبعثون كلّ يوم وغيرهم يموت غريباً!
نجوى صليبه
أيموتُ الشّاعر؟.. نعم يموت شاعر بكر ويبقى قصيده.. يموت شاعر فحل ولا يبقى من أثره شيء.. يموت الشّاعر مثل كلّ البشر، لكن يخلّده أصدقاء وأعداء – على اختلاف مستوياتهم الشّعرية ونواياهم المهنية والأخلاقية – بمرثيّات لا منتهية، معربشين على شهرته وذكرى وفاته السّنوية، وكأنّما عقد الشّعراء هدنةً مع بعضهم البعض – إلّا صداقات نقية قليلة – لكي لا يقال إنّ شاعراً “أشعر” من غيره وإنّ شاعرةً تغار من أخرى، ولكي يقال إنّ الجميع يتابع الجميع ويلاحقه من مركز ثقافي إلى آخر ومن أصبوحة شعرية إلى أمسية، ومن الـ”فيسبوك” إلى الـ”أنستغرام والـ”تلغرام” و”الـ”واتساب” وغيرها من وسائل التّواصل الاجتماعي، وهذا ما يحدث أيضاً في موت روائي أو قاصّ.
وعلى الضّفة الأخرى من النّهر الجاري بجماله وبشاعته، بركوده وغليانه، يموت مفكّر أو باحث قدّم دراسات مهمّة وضرورية أكلت من روحه وجسده وحياته ما أكلت، ولا ينعيه أو يخرج في جنازته أو يتذكّره في ندوة أو أمسية أحد من سكّان الضّفة السّابقة، بمن فيهم أولئك الذين تناول تجاربهم بالنّقد والبحث والدّراسة، وربّما بعضهم لم يسمع به وهذا جائز جدّاً على اعتبار أنّ جمهور كلّ نوع أدبي حدّدته سلفاً المصلحة الشّخصية والأدبية والاجتماعية، وينضمّ إلى هذه القافلة الفنّان التّشكيلي الذي لم يكن ليقترب شاعر منه أو يعرف اسمه لولا معارض تقيمها –مؤخّراً- مراكز ثقافية قبيل النّدوات والأمسيات الشّعرية، فيضطر لأن يسير سريعاً أمام اللوحات المعروضة، ولتكتمل الصّورة “الفهمية” يلتقط أحد المصوّرين الموجودين صورة تذكارية للزّمن ليقال عنه لاحقاً: لقد كان مهتماً بالشّأن التّشكيلي!.
يحيا الشّاعر بقصيده، ويموت صحفي كان له دور في انتشاره وإيصال تجربته إلى جمهور لا بأس به، لكنّه لا يتذكّره شاكراً أو مادحاً أو ناقداً أو مجاملاً أو حتّى قارئاً كما كان يطلب منه.
والسّؤال الذي لا بدّ ولا مفرّ منه: لماذا نمجّد شعراء رحلوا منذ زمن؟ ولماذا نمتدح شعراً مسروقاً أو مستمداً من تجربة عاطفية كاذبة عاشها الشّاعر في لحظة فراغ أو إثبات ذات وحضور أودت بمشاعر فتاةٍ أُخذت بطيب كلامه وصوره ونظمه؟ لماذا ننسى نقّاداً وباحثين قدّموا دراسات وأبحاثاً أدبية وعلمية واقتصادية واجتماعية وفكرية لو كانت في بلد آخر لأقيم عنها مؤتمرات لا تُعدّ ولا تُحصى؟ لماذا نخشى أصحاب الفكر الحرّ والنّقد الحرّ ولا نستذكرهم لا في ذكرى ولادة ولا ممات؟ لماذا نزيحهم من المشهد الثّقافي وكأنّهم لم يكونوا موجودين ونستبعدهم عن النّدوات والأمسيات؟ والحديث هنا عمّن رحل منهم ومن بقي.
لماذا نسير على خطا عصور سابقة كان الشّعر فيها ديوان العرب بحقّ، وكان الشّعر فيها قريحة وسليقة وفطرةً وارتجالاً وجمالاً، ولم يكن صناعةً وتجارة بما فيه القصيد الذي قيل مدحاً أو ذمّاً لتحقيق رضا ذاتي أو خارجي؟ لماذا هذا التّمييز والتّعصّب للشّعر وجميعاً نعرف كمّ الاستسهال الحاصل فيه والسّرقات والإشكاليات والمعضلات والمشكلات الاجتماعية والقيل والقال، ولن نخوض ها هنا في العلاقة التي تجمع الشّعراء بالشّاعرات وغيرهن من الجنس اللطيف ونختصرها بالقول هناك من يحرّر المرأة في قصيدة ويقذف عقلها بعقده في الواقع.
معضلات كثيرة لن نجد لها حلّاً جذرياً لا عاجلاً ولا آجلاً، لكن يمكننا التّخفيف منها، ولا نقول ذلك تشاؤماً إنّما لدينا واقع نعيشه بتفاصيله ونأمل بأن يتغيّر إلى الأفضل لا إلى الأشدّ سوءاً.