الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شيطان جديد

عبد الكريم النّاعم 

جلس صديقي وعلى وجهه علامات تدعو للتساؤل، فأشرتُ له بيدي إشارة تفيد “ما بك”؟!

نفخ متأفّفاً وقال: “يا رجل لكأنّه ينقصنا شيطان جديد، يضاف إلى شياطيننا”؟

قلت: “عن أيّ شيطان، وبأيّ معنى”؟

قال: “لا أقصد المعنى اللغوي لمفردة شيطان، والتي تعني كلّ بارع في اختصاصه، بل بالمعنى السلبي للمفردة، والتي تُحيل مباشرة على إبليس، وفعل الأبالسة”.

قلت: “لم تحدّد حتى الآن عن ماذا تتكلّم”؟.

قال: “أتحدّث عن هذا”، وأخرج موبايله من جيبه ووضعه أمامه بحركة متشنّجة بعض الشيء.

قلت: معك حقّ، اسمع، سأسرد عليك بعض مشاهداتي عن هذا الشيطان، وأنا أطلّ على الشارع من خلال هذه الفتحة.

– سائق درّاجة ليس لها صوت، يرتدي جلاّبيّة، وتجلس خلفه بشكل جانبيّ زوجته، وكان واضحاً أنّها متوسّطة العمر، وليست صغيرة، وتلبس ثياباً تقليديّة، وهي محجّبة، زوجها يقود الدرّاجة وهي خلفه فتحت الموبايل، وانصرفت إليه.

– سائق درّاجة مماثلة يُوقف ابنه الصغير أمامه، ويقود الدرّاجة بيد، وينصرف إلى الموبايل، يلقي نظرة خاطفة أمامه في شارع لا تنقطع عنه السيارات إلاّ لماماً، وينظر في الموبايل أخرى، منصرفاً عن كلّ خطر محتمل.

– شابّة تسير على الرصيف وقد فتحت موبايلها، وتسير غير آبهة إلاّ قليلاً بما قد يُفاجئها أثناء مسيرها.

– ثمّة شباب وشابات، كما قيل لي، لا ينامون إلاّ والموبايل تحت الوسادة، يفتحون شاشته ويظلّون يقلّبون حتى يأتيهم النّوم، فيدسّونه تحت الوسادة، رغم معرفتهم بالتحذيرات ممّا ينجم عن ذلك من أضرار جسديّة.

قاطعني: “يا رجل شكى لي صديق أنّ بعض اللقاءات، في الزيارات الخاصّة، تبدأ بالسلام، ثم الجلوس، ثمّ ينصرف كلّ إلى موبايله، هل هذا معقول”؟!

قلت: “لعلّك سمعت بذلك الجدّ الذي يزوره أحفاده وأهلوهم أسبوعيّاً، ولقد لاحظ ما ذكرت، فأحضر سلّة وضعها وراء الباب، وألزم كلّ مَن يأتي بأن يضع موبايله فيها، وبذلك كسب أن ينصرفوا إليه، وإلى زيارته”.

قال: “هل تعتقد أنّ هذه الظاهرة عالميّة”؟

قلت: “أشكّ في ذلك، فالذي أعرفه، كالآخرين، من خلال مراقبة شاشة التلفزيون التي تنقل لقطات من شوارع العالم، أرى أنّ الناس في المدن الغربيّة خاصة، منصرفون كلّ في طريقه، ولم ألحظ هذه الظاهرة، وحتى لو وُجد شيء ممّا ذكرت، فهذا لا يبرّر انتشار هذا الوباء”.

قاطعني: “قال ما السرّ في هذه الظاهرة عندنا”؟!

قلت: “أرجّح أنّها السطحيّة في التعامل مع الأشياء، ولا أستبعد أن يكون لأزمنة الانهيار يد في ذلك، ففي مثل هذه الأزمنة تتتابع المنحدرات، وتنهار الكثير من القيم، وقد يدوم هذا حتى يكون ثمّة نهوض يقف في وجه تلك التردّيات”.

قال: “لماذا لا تعمّ هذه الظاهرة ديار الغرب الذي ابتكر هذه المنجزات”؟

قلت: “في تلك البلاد الراقية يحسبون حساب كلّ شيء، فالزمن عندهم ليس مفتوحاً للهدر، فالعمل كما تعلم ثماني ساعات متوالية لا يجد الموظف أو العامل فرصة لحكّ أنفه، بينما عندنا تذهب لمراجعة دائرة في أمر فتجد الموظف أو الموظفة منصرفاً إلى تقليب صفحات موبايله السخيفة، فما يردّ عليك إلاّ وهو ضجران متأفّف من أنّك قطعتَ عليه متعته.

يا صديقي هذا الجهاز كغيره من منجزات هذا العصر، إنْ أنت أحسنتَ استخدامه يقدّم لك خدمات رائعة، في الاتصال كما في البحث عن معلومة، وإن أنت أسأت استخدامه يتحوّل إلى شيطان رجيم، ليس فيه إلاّ طقّ الحنَك، والألعاب التي تُذهب الوقت هدراً، والبحث عن مواقع لا فائدة منها”.

aaalnaem@gmail.com