حرب تشرين التحريرية.. فاتحة عصر الانتصارات
د. معن منيف سليمان
تعدّ حرب تشرين التحريرية عام 1973 أول حرب أنصفت فيها العرب من الصهاينة، ففيها حققوا أول انتصار مؤزر في تاريخهم المعاصر فتح الباب على مصراعيه لسلسلة من الإنجازات المتتالية، فكان انتصار المقاومة في 25 أيار عام 2000 وانسحاب “إسرائيل” من جنوبي لبنان، ثم انتصار تموز 2006 الذي أفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي روج له المحافظون الجدد في واشنطن، وبعده صمود غزة الأسطوري في وجه الحرب العدوانية الهمجية نهاية عام 2008 وبداية 2009، وكذلك الانتصارات المدوية التي يحققها الجيش العربي السورية الباسل على العصابات الإرهابية المسلحة على أرضنا السورية.
لقد حطمت حرب تشرين حاجز العجز الذي حاولت الدعاية الصهيونية رسمه إثر نكسة حزيران عام 1967، بالانتصار العسكري الذي حملته حرب تشرين، وتفوق العقل العربي في التخطيط والأداء، وتبدد الإحساس بالمرارة الذي كاد أن يخيم على الأمة.
كانت تلك الحرب الخالدة ثمرة جهود حثيثة وعمل جاد واستعدادات دؤوبة من قبل جيشي سورية ومصر، إذ عمل البلدان منذ نكسة حزيران عام 1967 لإزالة آثار العدوان بعدما تمادى العدو في غطرسته وبالغ في تقدير قوته العسكرية مقابل استخفافه بالعرب وقدراتهم.
ومن هنا بات من الواجب، لا بل من المفروض، على العرب توفير جميع المقومات العسكرية والاقتصادية والتعبوية اللازمة للقيام بعمل ينتقل من خلاله العرب إلى حالة أخرى تمحى فيها ظلال نكسة حزيران. ففي إطار الاستعداد لخوض معركة مواجهة مع العدو الإسرائيلي وضعت القيادتان السورية والمصرية خططاً محكمة لمفاجأة العدو، وقد تجلى ذلك بوضوح في تقارير أجهزة الاستخبارات الأمريكية عندما طلب إليها “هنري كيسنجر”، وزير الخارجية الأمريكي، إعطاءه تقارير دقيقة عن الوضع في المنطقة في الأسبوع الذي سبق الحرب، وكانت الإجابات كلها تشير إلى استبعاد اندلاع القتال في الشرق الأوسط في القريب العاجل، وكان آخر هذه التقارير يوم الجمعة 5/ 10/ 1973، حيث كان الجواب بالإجماع عدم توقع اندلاع الحرب في الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
لقد وضّح القائد المؤسس حافظ الأسد الموقف بالقول: “أريد أن أوضح نقطة مهمة لا يجوز أن تظل غامضة على الذين يريدون أن يؤرّخوا حرب تشرين بتجرّد وموضوعية، وهي أن الهجوم العربي لم يكن مباغتاً تماماً للعدو، وهذا ما عرفناه من إفادات الأسرى الذين أجمعوا على أن قيادتهم عرفت بالهجوم قبل وقوعه، لكن يبدو أن غطرسة العدو واستخفافه بالعرب جعلاه لا يستوعب التقديرات الجديدة للرد العربي على تماديه في سياسته العدوانية التوسعية التي بلغت حدود المعقول”.
لقد تمكّنت القيادتان السورية والمصرية، رغم هذه الظروف الصعبة التي فرضتها النكسة، من تحديد زمان ومكان الهجوم، فكان يوم 6/ 10/ 1973 في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق ظهراً زمان بدء الهجوم المشترك على الجبهتين السورية والمصرية، حيث تمكنت القوات السورية من اجتياز “خط آلون” وتحصيناته في الجولان، والتقدم على ثلاثة محاور، في حين تمكنت القوات المصرية من عبور قناة السويس، وإقامة مراكز ونقاط استناد لها على الضفة الشرقية للقناة. وبدت مظاهر الانهيار على القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ومؤكد أن الحرب كانت ستأخذ مساراً مختلفاً لولا التدخل الأمريكي الغربي المباشر الذي حال دون الانهيار الكامل للجيش الصهيوني.
أما على صعيد الأمم المتحدة فقد صادق مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي – السوفييتي المشترك بقراره رقم /338/ الخاص بوقف إطلاق النار على جبهات القتال في سيناء والجولان خلال 12 ساعة من إعلانه في تمام الساعة السادسة واثنتين وخمسين دقيقة صباح يوم 22/ 10/ 1973. وبحلول موعد تنفيذ القرار في الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم إلتزم الطرفان المصري والإسرائيلي بوقف إطلاق النار، في حين استمر القتال على الجبهة السورية، رافق ذلك خرق لإطلاق النار على الجبهة المصرية في اليوم التالي من قبل القوات الإسرائيلية، ما استوجب إصدار قرار رقم 339 المؤكد لوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الطرفين المصري والإسرائيلي إلى الخطوط ما قبل الساعة السابعة من مساء 22/ 6/ 1973، ومع استمرار “إسرائيل” لخرق إطلاق النار للمرة الثالثة، صدر قرار رقم 340 يدعو فيه إلى الامتثال للقرارين 338 و339، والعودة إلى خطوط 22/ 10/ 1973، وزيادة عدد المراقبين الدوليين في المنطقة وإنشاء قوة طوارئ من الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، على أن يتم تنفيذ ذلك فوراً بمساعدة الأعضاء كافة في المنظمة الدولية.
أما على الجبهة السورية، فقد أبلغت سورية في صباح يوم 24/ 10/ 1973 الأمين العام للأمم المتحدة موافقتها على قرار مجلس الأمن رقم 338، وربطت ذلك بإلزام “إسرائيل” على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967، وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقد قرنت سورية موافقتها بتقيد “إسرائيل” بوقف إطلاق النار، مع التأكيد على استعداد القوات المسلحة السورية لاستمرار القتال عند الضرورة، وهذا ما أوضحه القائد المؤسس حافظ الأسد في خطابه يوم 29/ 11/ 1973، بالقول: “إن صدور قرار مجلس الأمن بوقف القتال جاء مفاجأة لسورية، بل إننا لم نعلم بوجود القرار أو بدعوة مجلس الأمن للانعقاد، وإن قواتنا المسلحة على أتم استعداد لمواصلة القتال إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك، وإن سورية قبلت قرار مجلس الأمن من موقف قوة”. وذكر القائد المؤسس إن سورية لم تستكمل تحرير جميع الأراضي، وإنه لا يزال قسم في منطقة الخرق مع العدو الإسرائيلي، لأن وقف إطلاق النار جاء مغايراً لسير المعركة، لأن سورية كانت تتصور أن هذه المعركة مع العدو الإسرائيلي معركة طويلة الأمد، كما أن سورية ستعود إلى القتال بكل قوتها إذا لم يثمر النضال السياسي”.
كانت سورية تعرف أن قرار مجلس الأمن لا يتبنى الأهداف العربية التي حارب العرب من أجلها، كما كانت تعرف في الوقت نفسه أن أي قرار سياسي هو انعكاس لميزان القوى على النطاقين الإقليمي والدولي، وللظروف الموضوعية والعوامل الذاتية التي نجم عنها، وهو بهذا المعنى لا يمكن النظر إليه على أنه شيء دائم، ولكنه خطوة على الطريق يتحقق فيها الهدف المرحلي للنضال العربي ويهيئ الظروف الأكثر مواءمة لمواصلة السير على طريق تحقيق الأهداف البعيدة.
لقد كانت حرب تشرين الأول عام 1973 من أبرز الأحداث التاريخية في التاريخ العربي المعاصر نظراً لمنعكساتها ونتائجها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولما حملته من نتائج لعل أهمها تحطيم مبدأ التفوق العسكري الإسرائيلي، وانتزاع العرب زمام المبادرة من العدو باتخاذ قرار شن الحرب المفاجئة، وانهيار أسطورة الطيران الإسرائيلي كسلاح فعال في الحرب، باهيك عن انعكاساتها النفسية والسياسية السلبية على الكيان الصهيوني.
يبقى القول: “إن الذين خاضوا حرب تشرين من أجل الكرامة والحقوق، يستطيعون خوض أكثر من تشرين حتى يستعيدون حقوقهم كاملة غير منقوصة، سلماً كان ذلك أم حرباً.