“زوربا اليوناني”.. السخرية من الحياة
سلوى عباس
منذ أيام شاهدت عبر أحد التطبيقات الالكترونية فيلم “زوربا اليوناني” فوجدت نفسي أتابعه بشغف علماً أنني شاهدته أكثر من مرة، إذ يتعمق الفيلم في موضوع البحث الإنساني عن المعرفة وطرح التساؤلات العديدة عن رفض المقولات والأفكار الأخلاقية والتمرد عليها بحثاً عن بديل فكري آخر في فك ألغاز العلاقة بين الإنسان ومجتمعه المثقل بالأعراف والتقاليد التي أصبحت تشكل عبئاً عليه ومواجهتها بالسخرية.
يناقش الفيلم المأخوذ عن رواية تحمل الاسم ذاته حكاية رجل بسيط من عامة الناس تحول إلى أسطورة سكنت وجدان الملايين من الناس قبل أن يقوم المخرج مايكل كاكويانيس بتحويلها إلى فيلم في ستينيات القرن الماضي، وفيه يتألق النجم أنطوني كوين بدور “زوربا” الذي التصق به إلى نهاية حياته، وفي الفيلم يرافق زوربا رجلاً ثرياً يسعى إلى تحقيق مشروع استثماري في أحد المناجم، وتتواصل علاقة الاثنين في بيئة طبيعية تكشف الكثير من المعاني الحقيقية للناس والصداقة والحياة بما تحمله من مغامرة واستكشاف لأحوال البسطاء والمهمشين في المجتمع، وما يتميزون به من مشاعر وأحاسيس مفعمة بالحياة والأمل رغم ما يعترضهم من مشكلات، وفيه يبدو زوربا قانعاً بمصيره وقدره دون تذمر أو إحساس بالمهانة، فهو رجل حر وشجاع وكريم، ويتمتع بفهم حقيقي للحياة وانحيازه إلى القيم الإنسانية، يعيش متحرراً من أية أفكار جاهزة وأحكام مفروضة عليه من محيطه الاجتماعي، ويواجه متاعب الحياة بألوان من الرقص والغناء والعزف على آلته الموسيقية في سعي لإشباع روحه، معلناً ولادةً عسيرة للخيارات الحرة في الحياة والفكر، تلك الحرية الفطرية التي تعي ما يحيط بها.
من حسن الحظ ربما أن مايكل كاكويانس الذي كتب سيناريو الفيلم أيضاً، لم يركز على مشكلة المثقف صاحب المشروع الاستثماري والمنعزل عن الحياة، بل ركز على الحياة نفسها من جانبها الحسي المنطلق بالذات وهو الذي يمثله زوربا، ذلك الجانب الممتلئ بحساسية تتراوح بين التعاطف والقسوة، بين الرغبة في الاستمتاع المؤقت والرغبة في الخلق المثمر، وبين الرغبة المستمدة من الخبرة والتعقل المستمد من القدرة على التأمل مما أعطى مساحة إنسانية أكبر في الفيلم وامتلك خصوصيته الإبداعية بارتباطه الوثيق بهموم الناس البسطاء وأعماقهم الوجدانية.
أما الموسيقا فكانت بطلاً أساسياً في الفيلم فكانت موسيقا الحياة، لأن الحرية تعني الذهاب حتى النهاية، حيث الانتصار أو الجنون، فاختصرت هذه الموسيقا الكثير من مواقف الحياة،ـ لذلك كان زوربا مثالاً للقوة الكامنة في الإنسان، والتي يستطيع من خلال امتلاك زمامها أن يواجه العواصف التي تحاول إغراقه، وفي آخر مشهد من الفيلم، وبعد أن فشل المشروع، وأفلس الرجل المثقف باسيل، طلب من زوربا أن يعلمّه الرقص، وهكذا تبدأ رقصة زوربا وكأنها تعيد الحياة إلى الأشياء التي تجمدت وبهت لونها، منتصرة على كل عوامل اليأس والفشل.
لقد حاول كاتب السيناريو، وهو لم يبتعد في رؤيته عن الرواية كثيراً أن يعقد مقارنة بين الوعي الأكاديمي الذي يأتي من خلال الدراسة والكتب، وبين الوعي الفطري الذي يأتي من التجارب الحياتية التي يخوضها الإنسان، والتي تقوم بدورها في بناء وصقل شخصيته، متمثلة بهذا الرجل التي حفرت السنوات خطوطها القاسية على جسده وفكره وسلوكه، فحولته إلى وداعة الحمل وقسوة الصخر، إنه زوربا الذي شبهه الكاتب بالثعبان الذي يلامس الأرض مباشرة بواسطة مسامات بطنه، فيدرك أسرارها، ويعرف كيف يعيشها ويتحايل عليها.