قصص عن الشهادة والحرب.. عشرة أقمار تزين “حافلة العاشقين”
ليندا تلي
يتسامرون، يتجاذبون أطراف الحديث، بعضهم يسرحُ بشريط يسترجع ذكريات رفاق استُشهدوا قبلهم، وبعضهم يتحضر لاحتضان طفلته التي تنتظره عند الباب محملاً بالهدايا والحلوى التي اعتاد على حملها لها في كلّ مرة يعود بها إلى البيت، بعضهم متلهّف للقاء عروسه، وآخر يفكّر كيف سيؤمن احتياجات أطفاله وزوجته في ظل الغلاء الفاحش، وهناك من أسند رأسه على النافذة ملقياً بحمولة دنياه المضنية لهنيهة من الوقت، يتأمل خلق الله من شجر وجبل وغيرها، ومنهم من يطلب تغيير قناة الراديو، وآخرون يطلبون من السائق “نايف” وقف الحافلة لشراء فنجان قهوة وهو يلبي طلباتهم برحابة صدر، برفقة نسائم عليلة تداعبُ وجوههم، وضحكاتهم تغمرُ سقف الحافلة ونوافذها في جو من الألفة العامرة، حاول “نايف” المرور بسرعة تجاوزت المائة في منطقة “عين جارة” بريف حلب الغربي لتنحدر الحافلة بثوانٍ معدودة عن مسارها، لاحت له أجنحة ناصعة البياض مرصّعة بأفخر الجواهر والأحجار من الياقوت والمرجان، وأصوات خرقت أذنيه مهلّلة مغردة، نظر نايف إلى الشمس فرآها تبتسمُ وتتلألأ كالذهب المرصع بالألماس تناديه أهلاً وسهلاً بقدومك إليّ، أشرق وجهه وتهللت أساريره وأغمض عينيه وأحسّ بروحه انعتقت من سجنها وحلّقت إلى الملكوت، تطاير جسده ولفحته برودة حميمة ثم تهاوى إلى الأرض، فتحت له ذراعيها احتضنته بلوعة وشوق، فتيلُ صاروخ حاقد أشعله المسلحون المتربصون بالمنطقة، انقضّ على الحافلة كانقضاض الذئب على فريسته، فغدت هيكلاً حديدياً، حتى لا وجود لنافذة، أجساد ملقاة هنا وهناك ورائحة الدم تملأ المكان، جواهر عشر ارتفعت إلى قبة السماء وانعقدت بطوق ثمين يزين الفردوس.
بهذه الكلمات يمكن اختزال قصص وحكايات كتاب “حافلة العاشقين” الصادر مؤخراً عن دار كنانة للطباعة والنشر والتوزيع، بتوقيع مجموعة من الكتّاب الشباب هم: سناء المرجي، زهراء الحبش، آية ضاشو، حسن محي الدين، لجين ددش، بتول سيفو، حوراء قدورة، بشرى عباس، إخلاص عبد الله، ليرصدوا فيها ويوثقوا سيَر عشرة شبان استُشهدوا في الحافلة التي كانت تقلهم في طريق العودة إلى بيوتهم في مدينة نبل بريف حلب، واستهدفتها المجموعات المسلحة يوم الجمعة 13 أيار 2022.
يضمّ الكتاب في صفحاته الـ 140 عشر قصص هي: “الجوهرة، الشيخ، روح الله، مناخات متغيّرة، وجه الشمس، نجاة، موعد مع الشمس، عاش شهيداً، لا تدمعي، لو تعلمون، فضلاً عن قصة “اكتمال القمر” التي تروي حكاية الطفل علي حاج عيسى الذي استُشهد بقذيفة هاون أثناء تشييع شهداء الحافلة المذكورة.
وبناءً عليه يمكن القول إن كتّاب “حافلة العاشقين” الذي أبدع ثلّة من الشباب السوري الواعد في توثيق حكاياته يضافُ إلى آلاف القصص والملاحم التي سطّرها السوريون في صبرهم وصمودهم، خلال سنوات الحرب، وتحتاج إلى تدوين لتبقى ماثلةً حاضرةً في ذاكرة الأجيال، وذلك بأسلوب أدبي واضح وسلس، كما فعل هؤلاء الشباب الذين أهدوا كتابهم إلى الشهداء الذين مازالوا ينتظرون ركوب حافلة أخرى تلحقهم بحافلات من سبقوهم، ممن قال عنهم الرئيس الراحل حافظ الأسد “أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر”.
في قصة “الشيخ” يُحسب للكاتبة زهراء الحبش تسليط الضوء على آلام الأهل الذين فقدوا فلذات أكبادهم، يقول أبو فرج لابنه الشهيد “علي” المسجّى في المشفى: “أين رحل سمارُ وجهك يا الجميل؟ أيّ قدر لئيم يا ولدي جعلني أتعرّف إليك من طول قامتك، لم يكتمل هلالك يا الغالي، لا تنم بحذائك صغيري، سيزعجك في مرقدك، سأنتزعه من قدمك رويداً رويداً كي لا يُصاب جرحك وتتألم، أخذ القدر فردة من حذائك وأبقى لي الأخرى، كما أخذ عمرك يا ولدي وأبقى لي لوعته”.
كما برعت آية ضاشو في قصة “روح الله” بعرض الجانب الآخر للمقاتل الشجاع الذي ما غفل عن واجباته الاجتماعية تجاه أسرته، وذلك من خلال حسين الذي لم تمنعه ضغوط الحياة وقتاله إلى جانب الجيش العربي السوري من برّ والديه وعدم تركه غرفته الوحيدة التي يسكنها وأطفاله وإعمار منزل له رغم يسر حاله، حتى أنه في أيام إجازته يقضيها ببيع الزيت برفقة أخيه محمد، إذ قال الأخير إن فقراء كانوا يراجعونه لسداد قيمة الزيت فلا يجدون أسماءهم في الدفتر، فقد كان حسين يسدّد عنهم ديونهم، وما كان يترك فرصة كبيرة أو صغيرة تمرّ أمامه إلا وسخّرها لخدمة الناس، وتحديداً أسر الشهداء كان يقسط الزيت لهم.
تستوقفك خلال سرد الملاحم البطولية، قلوبُ الشهداء النقية والكبيرة لتقف لهم احتراماً وتعظيماً، فهم لم يقاتلوا حباً بالقتل، بل لدفع القتل عن أناس لا حول لهم ولا قوة، يقول سامر لصديقه: “حتى الذين جاؤوا لتخريب البلد وقتلنا، أكره رؤية جثثهم وأحزن كثيراً عندما أراهم صرعى، ليتهم يعودون إلى رشدهم كي لا نضطر لقتلهم”.
وفي “موعد مع الشمس” لامست حوراء قدورة حزن الأطفال وانتظارهم لآبائهم الذين وعدوهم بالعودة لتناول الغداء معهم، حيث لم يعتد حسين النوم دون رائحة أبيه، ما إن طلع الفجر من تلك الليلة المظلمة التي استقبلوا فيها جثمان والده حتى سابق خيوط الشمس إلى أبيه وقد جاءه برغيفين من الخبز الطازج وحبتين من البندورة وبعض الخضار وقارورة ماء، وبعد أن انتهى من تناول الفطور مع أبيه تمدّد إلى جانبه ودسّ رأسه في ترابه، لثمه وتنشق شذا الريحان فغطّ في نوم آمن.
وفي “اكتمال القمر” عرجت سناء المرجي على واقع أطفال تعساء لفظتهم الحياة إلى براثن الحرب والموت، حيث لا مكان للطفولة ولهوها، لم تستهوهم المدرسة لأن الحرب قتلت فيهم الطموح والأمل بغدٍ أفضل من خلال الطفل الكبير علي الذي لا يتوانى عن مساعدة أحد، فلم يكن يستهويه عالم الطفولة بل كان يقتحم ببراءته عالم الكبار بخطوات محفوفة بالمخاطر، وفي ذلك اليوم الذي تزفّ فيه نبل الملاصقة لمدينته في موكب مهيب عشرة من خيرة شبابها إلى روضة الخلد كان يتصرف على غير عادته، فقد زار أخواته الأربع في بيوتهن كأنه في وداعه الأخير وانطلق مع صديقه للمشاركة في موكب التشييع دون أن يدري أن عيون الغدر الآثمة لم يرق لها مشهد الموكب المزدان بالورد والصور، فرمت بوابل من قذائفها الغادرة لتشويه المشهد، ووصل أهل علي نبأ استشهاد طفل في العاشرة من عمره، لحق الموكب المهيب فاختاره الله قمراً لينضمّ لركب شهداء “حافلة العاشقين”.