الأزمات الاستراتيجية تجتاح الاتحاد الأوروبي
هيفاء علي
اجتاحت الأزمات الاستراتيجية الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة، وأدت عملية التفاوض مع المملكة المتحدة إلى زيادة الاختلافات بين بروكسل ووارسو وبودابست وفيينا وروما، في حين أن الأسباب الكامنة التي دفعت البريطانيين للتصويت لمغادرة الاتحاد الأوروبي لم تختف.
في عام 2020، كشفت أزمة فيروس كورونا لأول مرة هشاشة الوحدة الأوروبية إلى درجة لم تشهدها أوروبا الموحدة من قبل، حيث أصبح عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على تجاوز الدول القومية ذات السيادة واضحاً للجميع. وعلى الرغم من أن أعضاء المجتمع تمكنوا في المستقبل من التوحيد والاتفاق على خطة مشتركة للتغلب على تداعيات الوباء، والتي تقدر بنحو 810 مليار يورو بالأسعار الجارية، فإن مسألة تمويل الخطة عن طريق إصدار دين مشترك تقريباً أدى إلى انقسام الاتحاد. وفي أيار الماضي، انقسم الاتحاد الأوروبي بشأن الحظر النفطي الروسي، حيث تم دعم موقف المجر الخاص بشكل علني من قبل ثلاث دول أعضاء أخرى على الأقل. نتيجة لذلك، لم يحدث رفض كامل لشراء النفط الروسي. في نهاية حزيران، انقسم أعضاء الاتحاد الأوروبي في الناتو إلى ثلاث مجموعات: الصقور، التي تضم الدول الأعضاء المتاخمة لروسيا مباشرة، بما في ذلك بولندا، ودول “النعام” في الجنوب والغرب الأقصى، و”الحمام” التي جمعت تحت رعايتها معظم دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية، وتوصلت في نهاية الامر إلى اتفاق الهدنة. والآن، تم تأجيل مبادرة تحديد “سقف سعر” للنفط الروسي اعتباراً من 5 كانون الاول، والذي كان يعتبر بالفعل في بروكسل وعواصم الاتحاد الأوروبي “صفقة ميتة”.. وهذه السلسلة التي لا تنتهي من الأزمات تؤدي إلى تغذية مشاكل استراتيجية طويلة الأمد للاتحاد الأوروبي.
في عام 2019، قدمت مجلة ” ذا ايكونوميست” سيناريوهين لمستقبل الاتحاد الأوروبي: الأول، إيجابي إلى حد ما، يفترض أن الاتحاد سيكون قادراً على التحول إلى “هيكل متعدد المستويات” تتفاعل فيه الدول الأعضاء وتحالفاتها غير الرسمية مثل الكواكب التي تدور في مدارات مختلفة، بحيث كلما كانت أقوى كلما تعمقت مصالحها المتبادلة في منطقة معينة. وبالنسبة للمهام المختلفة، سيتم تشكيل “تحالفات الدول المهتمة”، و”تحالفات الإرادة” داخل الاتحاد الأوروبي. أما السيناريو الثاني فأكثر سلبية، حيث سيكون تراجع الاتحاد الأوروبي أكثر وضوحاً، وسوف يلقي الضعف الاقتصادي المزمن بظلاله على الطموحات الجيوسياسية والتكاملية طويلة المدى، فيما ستصبح الاتفاقات بين الأعضاء قصيرة الأجل ومحدودة من حيث الموضوع، حيث سيضع كل منهم مصالحهم الخاصة أولاً. كما ستؤدي التحديات والتهديدات الخارجية إلى زيادة المشاعر الانعزالية والعزلة بين الدول. زيادة على ذلك، فإن المجتمع المجزأ بشكل متزايد سوف يفقد تدريجياً قدرته التنافسية الدولية، كما سينخفض مستوى المعيشة لدى مواطني الاتحاد الأوروبي.
اليوم، يتحدث إيمانويل ماكرون، ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، لصالح نهج أوروبا متعدد السرعات، ويقترحان تسجيل الوضع الحقيقي للأمور عندما يكون هناك تحالفات رسمية إلى حد ما داخل الاتحاد الأوروبي والتي لا تشمل جميع الأعضاء الـ 27. وفي حين بدا المستشار الألماني أولاف شولتز مستعدا للمضي أبعد من ذلك بمقترحاته، وذلك من خلال ترويجه لأطروحات تبدو وكأنها ترشح برلين لدور القائد الاستراتيجي، إن لم يكن المهيمن الجديد، في الاتحاد، ودعا في نهاية آب الماضي الاتحاد الأوروبي إلى الاستعداد لمزيد من التوسع في غرب البلقان، وفي منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي حتى جورجيا.
وبحسب برلين، من الضروري التخلي عن مبدأ الإجماع في صنع القرار في مجال السياسة الخارجية والمالية من أجل تحويل الاتحاد الأوروبي إلى اتحاد “جيوسياسي” قادر على اتخاذ إجراءات “حاسمة” على نطاق عالمي. وفي هذا الصدد، اقترحت ألمانيا تشكيل “قوة رد سريع أوروبية” بحلول عام 2025، وإنشاء نظام دفاع جوي موحد في أوروبا.
وبحسب المراقبين، فإن مثل هذا الخط هو مصدر قلق طبيعي ومتزايد للأعضاء الشرقيين في الاتحاد، حيث يبدو أن الأوروبيين الغربيين يبحثون عمداً عن آليات لزيادة نفوذهم على “الوافدين الجدد” من وسط وشرق أوروبا، كما يخشى الأوروبيون الشرقيون من “التهميش” عندما يتعلق الأمر باتخاذ أهم قرارات المجموعة، بما في ذلك تحديد الأولويات الاستراتيجية، وتشكيل السياسة الخارجية والدفاع المشترك.