التحديات الاقتصادية تكشف حقائق “بريطانيا العالمية”
عناية ناصر
لا يختلف تفاؤل رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، ليز تراس، وحالة الاقتصاد البريطاني عن بعضهما بشيء، فقد نشرت تراس على حسابها الرسمي على وسائل التواصل الاجتماعي “خطة نمو ستطلق العنان لإمكانات البريطانيين وتوفر وظائف أفضل، والمزيد من التمويل للخدمات العامة وأجور أعلى للشعب”. لكن يبدو أن رئيسة وزراء المملكة المتحدة تعيش على كوكب آخر، فبينما تتحدث بغرور عن آفاق النمو والإمكانيات، انهار الجنيه البريطاني إلى أدنى مستوى له منذ 37 عاماً، ما جعله يقترب من التكافؤ مع الدولار الأمريكي، عند 1.03 دولار فقط، بينما كان أكثر من 1.50 دولار منذ ما يزيد عن خمس سنوات تقريباً.
ولكن بينما تتأثر العملات في جميع أنحاء العالم مع قيام الولايات المتحدة برفع أسعار الفائدة، إلا أن هذه المشكلة ليست الوحيدة التي تواجهها بريطانيا، فالكثير من مشاكلها هي من صنعها، فالتضخم وصل إلى مستويات عالية بشكل مدهش، ويتوقع الاقتصاديون أن يصل إلى 22.4 في المائة بحلول العام المقبل. كما انخفضت الأجور الحقيقية، وأعلن بنك إنكلترا أن المملكة في حالة ركود تقني بالفعل. لكن من يصدق كلام قادة بريطانيا، لن يفترض أبداً أن أياً من هذه القضايا صحيح، بل إن البلاد تدخل حقبة جديدة عظيمة باسم “بريطانيا العالمية”، وهنا يكمن في الحقيقة جوهر المشكلة، فالأداء الاقتصادي المتردي هو نتاج لأيديولوجية السياسة الخارجية العلنية المتزايدة لبريطانيا، والتي بدأت مع بوريس جونسون، ومن المقرر أن تزداد سوءاً في عهد تراس.
لقد شكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، نقطة تحول أساسية في السياسة الخارجية البريطانية، حيث تغلبت الأيديولوجية والهوية على العقل والبراغماتية، فقرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لم يكن بناءً على سبب اقتصادي أو منطق إذا جاز التعبير، بل كان نفس رد الفعل العكسي الذي تحركه الهوية الوطنية ضد العولمة، والذي سيطر بشكل متزايد في جميع أنحاء الغرب، ومن المفارقات أنه كان نتيجة لعقود من الليبرالية الرأسمالية. ومن خلال القيام بذلك، أدى “البريكست” إلى خطاب جديد في السياسة الخارجية تشكل على نحو متزايد من خلال الاستثنائية البريطانية القائمة على الحنين إلى الإمبراطورية والهيمنة العالمية.
في الأشهر الأولى من رئاسة جونسون للوزراء، صورت مثل هذه الرواية الصين على أنها فرصة، حيث تلاعبت الولايات المتحدة بالخطاب المتعلق بالبلد، وألبت الرأي العام ضدها، ومارست الضغط على المملكة المتحدة لإتباع نهج سياستها الخارجية، أي “بريطانيا العالمية”. وسرعان ما استولى عليها المحافظون الجدد مثل تراس الذين حولوها إلى معجم الصراع الجيوسياسي على السلطة والصراع الأيديولوجي العالمي، ما يعكس أيضاً موضوع الهيمنة الغربية المتضائلة من وجهة نظر القوى الصاعدة.
في الواقع، كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي محاولة إعادة تصور مجد العالم الذي تهيمن عليه بريطانيا من خلال العسكرة والسياسات الاقتصادية القائمة على الأيديولوجيا فقط، وهو ما يفسر اتخاذ المملكة المتحدة مساراً تصادمياً عنيفاً ضد الصين وروسيا.
إن انتهاج مثل هذه السياسة سيؤثر بشكل كارثي على المصالح البريطانية في الممارسة العملية، خاصةً بعد تصريح تراس بأنها مستعدة فقط لبدء علاقات تجارية أوثق مع الديمقراطيات الأخرى، بدلاً من العمل وفق الحقائق الاقتصادية الفعلية، وتجاهل حقيقة أن “البريكست” قد عزل المملكة المتحدة عن أكبر أسواقها وأقربها، وهو الاتحاد الأوروبي. وبالمثل، أوضحت الولايات المتحدة مرات عديدة، بسبب إجماعها الجديد على حمائية “أمريكا أولاً”، أنها غير مهتمة باتفاقية تجارية مع بريطانيا كانت نتاجاً إيديولوجياً مهووساً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من كل ذلك، تتحدث تراس الآن عن “تقليل الاعتماد الاستراتيجي على الصين”، والتي تعتبر سوق تصدير آخر مهما للغاية بالنسبة للمملكة المتحدة، ويأتي هذا في خضم أزمة اقتصادية متصاعدة، مع القرارات المبكرة لخفض الضرائب التي خفضت قيمة الجنيه.
وفي هذا السياق، حذر الاقتصاديون أنه مع ارتفاع الدين الوطني، الذي يعتبر الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، فإن المملكة المتحدة على شفا كارثة اقتصادية محتملة، وأن المسار الحالي غير مستدام. لكن لا يبدو أن هذا الأمر يقلق الحكومة التي توقفت منذ فترة طويلة عن الاهتمام بالحقائق لصالح الأيديولوجيا.
وبالنظر إلى ذلك، فإن الابتعاد المحتمل عن الصين وسط مثل هذه الآفاق القاتمة قد يكون كارثياً بالنسبة لبريطانيا، خاصةً عندما تؤخذ قضايا التضخم الحالي في الحسبان، وتكاليف المعيشة المرتفعة، وتوتر سلاسل التوريد التي كانت في خضم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفيما يتعلق بكل من روسيا والصين، يجب على تراس الاعتراف بأن السياسة الخارجية العدوانية، وغير العقلانية المتزايدة للمملكة المتحدة تعمل فقط على تسريع تدهورها طويل الأجل لصالح الولايات المتحدة، فهل ستعود المملكة المتحدة إلى رشدها؟ وهل سيرفع البريطانيون الصوت مع استمرار الضغط على مستويات المعيشة؟