هل هو مخاض نظام عالمي جديد.. أم حرب نهاية العالم؟
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
ربما يكون هذا العنوان الرئيسي لما يجري الآن في العالم، فالمتتبّع للتصريحات على ضفّتي الصراع العالمي الحاصل الآن في وسط أوروبا يدرك جيّداً أن أوكرانيا هي المنطقة التي لا تزال تفصل حالياً بين الشرق بكل ما يحمل من قيم روحية والتزام إلى حدّ كبير بالضوابط، والغرب الرأسمالي الاستعماري الذي يسعى إلى استمرار هيمنته على العالم تحت عناوين براقة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من الأمور التي يتستر الغرب خلفها، ولكنه في الحقيقة يُغرق في نشر الفساد والأفكار الشيطانية خدمة لما تسمّى حكومة العالم التي تدير الصراع من خلف الكواليس، وهي تعلم جيداً أن أيّ صعود للشرق سيؤدّي إلى انهيار المنظومة التي أسّستها عبر خمسمئة عامٍ للسيطرة على العالم وتسخيره مجتمِعاً في خدمة أهدافها وطموحاتها.
ومن هنا فإن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير كان مقصوداً لجهة الإشارة إلى حقيقة الحرب التي يشنّها الغرب حالياً على روسيا وليس العكس، فالدول الغربية رفضت كل أشكال التعاون الندّي بينها وبين موسكو، بل أصرّت على أن تتحوّل روسيا إلى تابع للمنظومة الغربية إذا أرادت الاستمرار في الوجود، وعندما علمت فعلياً أنه لا سبيل لاحتواء روسيا حوّلت الصراع معها إلى صراع وجود، وبالتالي فإن الإمبراطورية المادية في الغرب رفضت التعامل مع روسيا على أساس هذه الندّية، مع أن روسيا أبدت الكثير من البراغماتية في تعاطيها مع الغرب.
فاستمرار الذراع العسكرية للغرب متمثلة بحلف الناتو في التمدّد شرقاً دون مراعاة مخاوف روسيا، هو في الحقيقة عمل ممنهج تهديد هذا البلد وجودياً والقضاء عليه، والسيطرة على ثرواته من الذهب والنفط والغاز والفحم والحبوب والمعادن الأخرى، ومعلوم أن هذا البلد بالمحصلة بلد بحجم قارة، وهو بلد صناعي بامتياز، ولكن الغرب بطبيعته يرفض نماذج الدول الوطنية لأنها تعيق في حقيقة الأمر رغباته الاستعمارية والتوسعية، وبالتالي فإن صعود أنموذج مخالف له في الفكر والتوجّه يعدّه تهديداً وجودياً له، ومن هنا كان لا بدّ من الاصطدام مع هذا الواقع آجلاً أم عاجلاً.
وفي الحقيقة، تعدّ الأمور التي تفترق روسيا فيها مع الغرب أموراً أساسية، تمثّل خلافاً عاماً بين الشرق والغرب بشكل عام، فالنزعة المادية المسيطرة على الغرب دفعته إلى التخلي عن جميع المبادئ والقيم التي تحكم هذا الكون، وصار يجاهر بالتفلت من كل القوانين والأنظمة والأديان التي تحكم العالم، بينما لا يزال الشرق على تنوّع دياناته يصرّ على المحافظة على القيم الأخلاقية والدينية والحضارية، على اعتبار أن الشرق لا يزال يتغنّى بعمقه التاريخي وتجذّر حضاراته، بينما الغرب عموماً، والولايات المتحدة خاصة، وهي بلد هجين حديث التأسيس، لا يملك الكثير من هذه المقوّمات، وهذا ما أشار إليه الرئيس الروسي عندما تحدّث عن عمر الإمبراطورية الروسية الذي تجاوز ألف عام، وهو ما يؤكّد اهتمامه بمسألة الإرث الحضاري والديني الذي يعدّ من أعمدة المسيحية الأرثوذوكسية، ومن هنا يكون الهدف الأساسي للغرب حسب بوتين هو فكر روسيا وفلسفتها، لأنه لا يقبل الأفكار الروحية التي تتعارض أساساً مع نزعته المادية.
حديث بوتين الذي ركّز فيه على انتقاد القيم الغربية أثار الكثير من ردود الأفعال الغربية حتى لو لم تتم الإشارة إلى ذلك صراحة، فالرجل أراد أن يضع العالم أجمع أمام حقيقة الغرب الاستعمارية التي تتسم بازدواجية معاييره كافة في التعامل مع الاتفاقيات والمواثيق، وإلى التعالي والعنجهية الغربية التي تقسم العالم إلى “عالم متحضر” و”بقية العالم” وإلى “عالم أول” و”عوالم أخرى”، مؤكداً أن القواعد التي يتحدّث عنها الغرب إنما هي معايير مزدوجة مصمّمة للحمقى.
فهذا الغرب هو ذاته الذي سقطت أقنعته عندما حاول في عام 1991 أن يفتت روسيا ويحوّلها إلى شعوب متحاربة، لأنه ينتهج سياسة الاستعمار الجديد من أجل الهيمنة على العالم وإسقاط الأنظمة، وقد حل أزمته في الكساد العظيم بالحرب العالمية الثانية، وأزمة الثمانينيات من القرن العشرين بموارد الاتحاد السوفييتي المنهار، فهو إذاً متطفّل على ثروات الشعوب.
ولكن أخطر ما تحدّث عنه بوتين هو أن الحضارة الروسية تستند إلى ديانات اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية وإلى الفكرة والكلمة الروسية، بينما الغرب يرفض الديانات والقيم والعادات، ويعمل على تدمير المنظومة الأخلاقية من خلال سعيه إلى مباركة المثلية والقضاء على الجنس البشري السليم، وهو ما يعدّه بوتين طبعاً عملاً شيطانياً يدخل في إطار نظرية المليار الذهبي.
ولكن الرئيس الروسي عاد ليؤكد أن هذا الغرب يقوده بالمحصّلة الأنغلوساكسون الذين اتهمهم بتفجير السيل الشمالي لمنع تواصل الآخرين مع روسيا، وأنهم يمارسون نوعاً من الإرهاب مع بقية الشعوب التي ترغب بالعلاقة مع روسيا من خلال اتهامها بالخيانة، كما أنهم لا يزالون يحتلون دولاً بأكملها كألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، مؤكداً من جانب آخر أن الدور الأساسي في دحر ألمانيا النازية كان للجيش الأحمر الذي قدّم ملايين الضحايا في الحرب العالمية الثانية لتحرير العالم من النازية، وليس لهؤلاء الأنغلوساكسون المدّعين، وأن روسيا تفتخر بكونها تؤيّد دائماً حركات التحرّر في العالم، وهذا ما يثير سخط الغرب الاستعماري الذي يجد في روسيا عائقاً أمام إحكام سيطرته على العالم وبالتالي لابدّ من التخلّص منها.
وأمام كل ذلك لابدّ من أن يدخل العالم إلى حقبة جديدة متعدّدة القطبية تدافع فيها الدول عن استقلالها وإرادتها ورغبتها في التنمية.
حديث بوتين هذا لم يفُت دون أن يقوم فيلسوف السياسة الروسية ألكسندر دوغين بالتعقيب عليه بالقول: إن روسيا تتعامل مع قوة همجية رهيبة، حيث “لم تعُد هناك قواعد، ونحن في مرحلة مختلفة تماماً من المواجهة العالمية”.
وأكد دوغين في مقابلة صحفية أنه “يجب أن ندرك أنه من غير المرجّح أن نحل هذه الأزمة بلطف من خلال المفاوضات. يجب أن نكون أقوياء، ويجب أن ننتصر، ويجب علينا تعبئة مجتمعنا”.
وقال دوغين: “مدمن مخدّرات، ورجل عجوز يتواصل مع الأرواح، هذه واجهة تقف وراءها القوة الحديدية للحضارة الأنغلو ساكسونية وحلف شمال الأطلسي، والغرب، والليبرالية، والعولمة، وهي نتيجة الخمسمائة عام الماضية من تاريخهم”.
فالغربيون “يدافعون عن أفكارهم الخاطئة وغير الإنسانية، ولكن الأهم من ذلك، أننا في عالمهم لا نحظى بأيّ مكان على الإطلاق. يجب أن ندرك أننا مدانون، ولا يمكننا تحقيق أي حل وسط مع هذه القوة الرهيبة والظلامية والقاسية”.
وشدّد على أن المعركة الآن هي من أجل إنقاذ روسيا والإنسانية والعالم في النهاية، وهذا يعني أن الحرب التي تخوضها روسيا الآن حربٌ مقدّسة.
إذن، وبالنظر إلى كل ما استعرضناه سابقاً من الحالة القائمة حالياً بين روسيا والغرب، نجد أن المعركة الآن دخلت مرحلة خطيرة وحساسة، حيث إن الطرفين ينظران إليها على أنها معركة وجود، ولم تعُد هناك ضوابط لهذه المعركة بعد أن توغّل هذا الغرب إلى أبعد الحدود في استهداف روسيا، بغية تدميرها والقضاء عليها، وهو يخوض الآن حربه على روسيا بوصفها حرباً عالمية ثالثة، ولكنه لا يجرؤ على الإعلان عن ذلك لأنه يخشى دخول هذه الحرب بشكل مباشر، ويعلم جيّداً أن مثل هذا الدخول سيبيح كل المحظورات أمام الدولة الروسية، وسيحوّل الحرب في اتجاه آخر يعجز مديروها عن السيطرة عليها، فهل يحدث ما تنبّأت به مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية من أن اندلاع المواجهة العسكرية بين واشنطن وموسكو لن تكون مجرّد حرب عالمية ثالثة، بل ستعني معركة “هرمجدون”، أي حرب نهاية العالم.