النقد وأزمة الحوار
سلوى عباس
جمعتني المصادفة خلال زيارتي لأحد الأصدقاء الشعراء بمجموعة من الأدباء الشباب من أجيال مختلفة طرحوا موضوع النقد ومواكبته للإبداع وقد تفاجأت بالرؤى النقدية المتقنة والمدروسة التي طرحوها والتي من وجهة نظري لا أراها تتناسب مع حجم نتاجهم الذي أنجزوه سواء من حيث صغر أعمارهم وبالتالي تجربتهم الأدبية سواء في القصة أو الشعر باعتبار الجيل الشاب يميل إلى هذين الفنين بعيداً عن الخوض في الرواية، لأنها تحتاج لتراكم معرفي يفتقده غالبية شبابنا، فيذهبون للشعر غالباً، وتحديداً بوجود الفيسبوك الذي أصبح جواز عبور ومنبر لكثيرين يسطرون هواجسهم على صفحاتهم ويسمونها شعراً دون الوقوف أمام معايير الشعر الحقيقية.
إذ تحدث أحدهم حول النقد بشيء يحمل الكثير من التنظير فقال: ثمة تغييب للنقد وليس غياباً، ومرده أسباب متعددة أهمها أن النقد مرتبط وجودياً بالنصوص الإبداعية التي يبني عليها تنظيره وتطبيقه، ولكننا عندما نفاجأ ببعض النقاد الذين يصنعون الطربوش ثم يبحثون عن رأس يلائمه، ندرك مقدار الخلل والخراب الواقع على الحركة الثقافية.
هذا الكلام الكبير بمعناه يفترض أنه يصدر عن كاتب أو شاعر متمرس بالكتابة والإبداع وليس من شخص مجمل نتاجه الإبداعي – إذا افترضنا أنه يمتلك مقومات الإبداع – لا يتجاوز مجموعة شعرية أو اثنتين ويسمح لنفسه أن ينظّر بالنقد.
شاب آخر رأى، من وجهة نظره، أن النقد في أبرز وجوهه هو حوار مع النص وكاتبه ومتلقيه، ويأسف أن معظم مثقفينا يجهلون أهمية الحوار بل لا يعرفون مفاهيمه ولايتقنون آدابه، ومعظمهم مصابون بتضخم الأنا يرون في ذواتهم الكمال وأنهم يملكون المعرفة والحقيقة المطلقة، لذلك حين يتناولون نصاً ما بالنقد ينطلقون من ذواتهم العارفة الكاملة دون أن يتأملوا أفكار الآخر ليأخذوا منها فيطوروا أفكارهم من جهة، ويفيدوها بآرائهم من جهة أخرى متجاهلين أن النقد إذا لم يتجسد بصورة حوار يفقد معناه، لذلك يتحول النقد في هذه الأيام إلى حالة من الاستعراض الثقافي ليدل على الذات العارفة بكل شيء، وبالتالي يظهر النص المنقود نصاً متهافتاً لا خير فيه، وكل الخير في النص الذي يقدمه الناقد، وبذلك يتحول النقد إلى معول يهدم كل إنجاز، وبالتالي أي تطور في الحياة والثقافة لن يكون إلا إذا بدأنا بالنقد لنعرف مواطن ضعفنا فنتجاوزها ونعرف مواطن قوتنا فنطورها، ومثل هذه المعرفة لن تكون إلا بممارسة النقد على أساس الحوار الذي يحترم الآخر بكل ماقدمه من إنجازات وسقطات.
وأوضح شاب آخر أن جمالية النقد وأسسه الفنية معدومة عندنا باستثناء بعض الدراسات النقدية الجادة التي قام بها البعض، وأشار إلى أن معظم نقد هذه الأيام- وكأنه هو قادم من زمن آخر- اقتصر على المدح او القدح أو الهجاء، وفي أحسن حالاته تلخيص مدرسي للعمل الإبداعي وكأنه اختزال لموضوع إنشاء دون الإشارة إلى جماليات النص أو سلبياته.
الحقيقة، بقدر ما فاجأتني هذه الطروحات بقدر ما فتحت في خاطري كثيرا من الأسئلة: كيف يصوغ هؤلاء الشباب على اختلاف أعمارهم وتجاربهم مفاهيمهم؟ وهل يدركون حقاً حقيقة ما يطرحون إذ يشعر المرء في حديثهم عن النقد وغيابه أنه امام أدباء مخضرمين؟ وإذا كانوا فعلاً مستوعبين لما يطرحون، فإننا سنكون أمام جيل بمعطيات إبداعية ونقدية مختلفة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نسل المبدعين الجادين مستمر لكن دائرة فاعليتهم ستضيق وتضيق إلى أمد لا أعرف كم ستطول مدته، لكنه لن يدوم للأبد، فالناس لن يتخلوا عن إنسانيتهم وسينهضون للمواجهة، لكن متى وكيف؟ ستبقى الأسئلة كلها معلقة!!