قراءة في رواية “الفرنكة” للكاتبة إيمان الدرع
“الفرنكة” رواية للكاتبة إيمان الدرع صادرة عن دار نينوى، ويصل عدد صفحاتها إلى٣٦٠، في البداية قدّمت الكاتبة إهداء تقول: إلى روح أمي حين أكتب عنها أكتب عن وطن لا يشيخ، وطن أبكانا من شدة العشق، ونستزيده عشقاً لا شفاء منه، ونتوارثه حدّ الفناء، ومن ثم دراسة نقدية كمقدمة للرواية كتبها الأستاذ الناقد والإعلامي الباحث في التراث الإنساني معتز محسن من جمهورية مصر العربية ليقول: لخصت لنا مشاهد الحرب معادن الناس ما بين النفيس والخسيس، حيث اختبار الوطن بأنينه الموجع بين من يلبي النداء ومن يفعل عكس ذلك، وبين من تماسك بقيمه وفضائله وسط أزيز الطائرات وهدير الدبابات وبين من تحدّى الظروف العصيبة بركوب موجة التساهل والتنازل بحجة صعوبة الظروف وشظف الأحوال، ومن ثم تقدم الكاتبة والشاعرة الأستاذة غادة اليوسف دراسة نقدية لتقول في العنوان (الفرنكة.. عبقرية المكان) الفرنكة هي الغرفة العالية في البيت الشامي العريق، تتراقص على شرفتها الورود والرياحين، وتتنافس على نشر شذاها على ساكنيها وعلى كل عابر وزائر ومقيم، وهي ترقب المشهد الزماني والمكاني بحب وكبرياء، وقد كتبت أيضاً برهافة مبدعة ومخيلة خصبة.. ودرية وإتقان بناء سردي.. تكتب الأديبة إيمان الدرع نص الوطن.. نص الإنسان.
وقد حملت الرواية عناوين عديدة وكل عنوان له حكايته وطريقة السرد التي تدهشنا بها الكاتبة، فما إن تبدأ بقراءة أول الرواية حتى تأخذك إلى النهاية بشوق لأحداث متتالية، ونجد أن هناك موجات متتالية من الدفق الشعوري مرتبطة بحضور الآخر دوماً تخلق منه هامات ومساحات مضيئة عبر تشكيلها الروائي، وقد تميّزت الروائية إيمان بخصوصية الأداء الفني المميز وضروراته المقنعة للقارئ والجمل المتسقة مع دلالة الطرح الرائع والمميز والتي تنسجم مع المفردات في عذوبتها وهمسها والصدق المليء بالانفعال العاطفي لتظهر لغة التكثيف ومقدرة طاقتها في أن تهز الأعماق وتلامس الروح والوجدان لتمتزج بالمهارة والحكمة والتفنن في إحداث المفاجأة المقنعة والإدهاش الموظف بدقة الوصف التصويري التجسيمي أو الحسي، وفي مقطع من عنوان “عهد لا يموت” تقول الكاتبة: ثمة ضوء شحيح في زاويتها لاينطفئ على مدار اليوم، وابريق ماء نظيف مغطى بقطعة قماش بيضاء قربه كأس فارغة تنتظر شارة الامتلاء حسب الحاجة، وأشياء مرتبة في كل ركن تعرف موضعها وتستقر. وبعد أن غطتها جيداً وهي تريح رأسها بتؤدة على الوسادة، نجد أن الكاتبة إيمان مهتمة برسم صور حية ونابضة للذات التي تبقى في مواجهة مستمرة مع الفعل الإنساني الأجمل وهو الحب، فيظل النص يكشف طوال الوقت هذه الأعماق الدلالية ويقدم صورة تخيلية تعيش داخل كل منا، وقد وظفت الكاتبة الأحداث بأسلوب سلس وكأنه أجزاء من مقطع موسيقي ذات جرس واحد، فهي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون وتعطي النص خصوصيته بنزعة فلسفية عالية الفكر عميقة الوجود.
وفي مقطع آخر من عنوان “في مركز الإيواء” تقول الكاتبة: كانت أصوات الأمهات تعلو منادية الأطفال الذين يلعبون الكرة في باحة المدرسة أن يتوجهوا إلى الغرف بعد تنظيف ما علق بهم من أتربة وغبار وتعرق من شدة الركض والاجتهاد في تسديد الأهداف، تطل أم، فيض من مشاعر مختلفة تنيرها الإضاءات الجميلة وتتغشاها العاطفة، فالكاتبة عمدت إلى تقديم الحكمة التي تمثل اختزال قدر كبير من التجربة الإنسانية وتقديمها في عبارات شفافة تتألق تارة وتتكاثف تارة أخرى، والكاتبة متمرسة باختيار الألفاظ الرقيقة التي واءمت الحالة الوجدانية والفكرة المطروحة التي تسير سيراً منسقاً ومألوفاً، تشعرك وأنت تقرأها بأنك تحلق مرتفعاً لمستوى تتوهج فيه الحالة الأدبية ضمن الإطار الزمني والمكاني.
رواية “الفرنكة” جمعت بين طياتها واقعاً ملموساً وتصويراً يترادف مع ما نسميه بالتجسيم، وهذا ما يجعل الرواية مشابهة للرسم في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير والتلقي، ونلج عالماً آخر من التوليفات المتأنية من التأمل الباطن وصيرورة التوهج، لأن الذات تأبى الانكسار وتتأثر بالمحيط، هي موائد العثرة في جنوح الآخر إلى توريطنا في ماء الحياة، وفي مقطع آخر من “أرجوك دعي اللوحة هنا” اعتمدت الكاتبة التكثيف وإبهار المتلقي في خلق صورة فنية ثرية ولغة مثقلة قوية يكتحل فيها الشوق بالجرح والخوف والغربة والحنين الذي يعتريه الوجد والأداء الفني المميز وضروراته المقنعة للقارئ، فالفكرة لدى الكاتبة تبني نفسها وتبتكر لنفسها وسائل تعبيرية وتتنوع حسب معناها الخاص المتشعبة بالنضوج والحس الإنساني والفكر العميق ومزجهما بالوجدان الصادق الذي يعكس داخله إلى خارجه.
وأخيراً أقول إن رواية “الفرنكة” تأخذك متهم الأحداث، فالحرب والحب والكثير من الأحداث التي نعيشها في الواقع جسدتها الكاتبة إيمان الدرع بلغتها العذبة البسيطة والتي زاد من جماليتها إدخال اللغة المحكية في بعض منها، وأنا أقرأ الرواية وجدت نفسي عارمة بين صفحاتها، وكل صفحة تشدني للأخرى بشيء من الدهشة والإبداع.
هويدا محمد مصطفى