ماذا بين الأبجدية الفراغية وفلسفة معرض “كان يا ما كان.. حلب” الإبداعية؟
حلب – غالية خوجة
تستعيد كينونة المكان حيويتها وهي ترفرف بروحها في مدينة حلب المعتّقة بالزمان، لتنطلق الذاكرة مجدداً مع أعمال مجموعة فنانين شباب من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق، وباختصاصات مختلفة، قدموا إلى حلب ليقيموا فيها أياماً ويبدعوا 28 عملاً فنياً، ليكون العمل 29 (إنه مطر) للفنانة الدكتورة بثينة علي، المدرّسة في كلية الفنون الدمشقية، والملفت أن عدد أحرف الأبجدية العربية 29، فهل يشير المعرض إلى أبجدية فراغية فنية جديدة؟
أعمال مفاهيمية إشارية
ويحيلنا معرض “كان يا ما كان.. حلب”، المستمر لغاية 5 من الشهر القادم، إلى إبداعات ضمن “التجهيز في الفراغ” كفنّ بصري يحلق بمخيلة الفنان والمتلقي مع فضاء فراغي تتحرك مكوّناته مع الأفكار التي تضيف للأبعاد الثلاثة من مكان وارتفاع وزمان بعداً فراغياً رابعاً متحولاً من خلال الأعمال الموزّعة في حي الجديدة بين ساحة الحطب وأزقتها العريقة وامتدادها إلى جادة الكيالي، لتمتزج مخيلة المكان مع ذاكرته وأهلها وآثار الحرب والحياة الجديدة المحلقة مع الحمامات والأعشاش واللوحات والتصاميم والأعمدة الرمزية لأسماء مؤثرة في تأريخ حلب، منها صباح فخري، إضافة إلى مشاريع تحية لكلّ من الفنانين إحسان عنتابي، لؤي كيالي، فاتح المدرس، والألمانية الدمشقية هايكه فيبر.
الفلسفة الفراغية وحكاياتها الرمزية
وهذه اللوحات المشهدية المفاهيمية والسوريالية والواقعية الرمزية جعلت الفراغ يموج فنياً بين تشكيلات الأقفاص والخشب والسيراميك ودلالات الألوان والحمامات وظلال الكلمات وموسيقا التكوينات الناتجة عن حكايات اللوحات للهواء الطلق والأحلام والآمال والناس الذين صادقوا الفنانين خلال هذه الفترة، ومنهم الطفلة سلام بيطار – الثالث الابتدائي – التي قالت لي بكل ثقة: كان حلمي أن يفتحوا هنا معرضاً دائماً للطيور، وها هي الطيور الآن قريبة من بيتنا، وليلاس أحلى صديقة مع بيتها الخشبي.
الطيران لا يحتاج لتهويدة نوم
وسبق لـ “البعث” أن التقت بالفنانين في شهر آب الماضي بينما كانوا يحضّرون لهذا المعرض الأشبه بالمهرجان، وهو يمنح الفراغ الزماني حياة بصرية تروي ما يعبّر عنه كلّ من الفنانين الشباب، ومنهم الفنانة ليلاس الملا التي أخبرتنا عن عملها: بيت يتحدث عن علاقتنا مع مساحة الأمان، لأن التوازن ضروري كي لا تخنقنا أية مساحة، وأعمل على هذه اللوحة التطبيقية بتجريدية فلا يكون هناك فرق بين اللوحة والفراغ كبُعدين مختلفين لكنهما متصلان، وكل غصن خشبي يصبح بثلاثة أبعاد (3D)، أمّا البعد الرابع فهو للحواس مع الموسيقا التي اخترتها “يا الله تنام” لفيروز، لتكتمل لوحتي مع كلماتي: “بيتك نفسه سيلتهمك ويخنقك بالهدوء والظلام نفسيهما اللذين غنّيا لك لتنام، فتصبح تهويدة النوم نفسها تهويدة الموت”.
متاهة الذاكرة التشكيلية
وفي مكان آخر كان دكاناً ما زال يتذكر حركة بائعه وزبائنه، تتأرجح صور لأعمال فنية معلقة بخيوط هي مشروع الفنانة وئام تعتوع الذي تعتبره تحية للدكتور إحسان عنتابي معلمها القدوة الذي ينتمي لحلب بطفولته وألم شيخوخته، إضافة لبعض رموز الفن التشكيلي بحلب مثل لؤي كيالي وفاتح المدرّس ورولان خوري، وصور لأعمال إبداعية من متحف حلب الوطني ومن عدة صالات للفن التشكيلي منها صالة الخانجي. وأضافت: اخترت أن يكون مشروعي عن تأريخ الفن التشكيلي بحلب من خلال هذه المتاهة التشكيلية التي بنيتها بخيطان كدلائل على معرفة الحركات الفنية بحلب، ولعلّ الإطار الملوّن هو سؤال آخر مفتوح للناس مثل هذا المكان الجميل المريح والملفت بطمأنينته رغم كل ما حدث.
رمزية الفطرة وألم بلا أقفاص
وها هي الفنانة أنوار الأخضر التي كانت جالسة هنا منذ حوالي شهرين تفتح كتاباً ودفتراً لتخطّط فراغ الدكان المهجورة، تحوّلُ تلك التأملات إلى مشروعها الذي نتأمله اليوم وهو (أقفاص) وتحدثنا: سعيدة جداً، أريد أن يرى الناس هذه الفنون، وأن يرى الجميع كيف نستطيع أن نعبّر عما نشاء من خلال الفن الذي يساعدنا على تجاوز الآلام، وأقفاصي رمزية لأنها تدلّ على البيئة المضادة لفطرة الكائن الطبيعية، سواء كان حمامة أم إنساناً أو أي كائن، وتظلّ طريقة التكيّف الأجمل هي الطيران المتحدث عن الألم إنسانياً وإبداعياً.
النقطة تتلاشى وذاكرتها ترسو
تحدث الفنان حمود رضوان عن مشروعه “في تلاشٍ مستمر” منطلقاً من أبعاد هذه الجملة المنطبقة على كلّ شيء، لأن كلّ شيء يبدأ من نقطة ويتلاشى مع الوقت بفعل محرضات مختلفة منها الزمن والحرب والألم والذكرى، ونقطة البداية واحدة وتبعيّاتها وآثارها تتلاشى، فلا شيء يبقى، لكن قد يبقى شيء آخر، لذلك، يعتبر النقطة بداية وذكراها الأولى تبقى، بينما حضورها يتلاشى.
وتابع: التلاشي مستمر، وعبّرت عنه من خلال 12 شاشة، تختزل 12 سنة من الحرب، تتداخل فيها الوجوه وأصواتها لتتلاشى كما الحرب مع الحمامات البيضاء المحلقة مع الموسيقا، وتنتهي اللوحة الثانية عشرة بالتلاشي وكأنها بداية شاشة جديدة من نقطة جديدة للاشيء، تتساءل: ماذا لو استمر التلاشي؟ هل سنرى المزيد من اللا شيء بعد هذه الحرب؟ كان الجامع الأموي مملوءاً بالحمام، تلاشى عددها، كذلك نحن في تلاشٍ مستمر.
وقبل أن أمضي، استوقفني قائلاً: أريد أن أوجّه من خلال صحيفة “البعث” استفزازاً للناس التي تكتب: “نحن بحاجة لدعم الصحافة، لصحفيين يتميّزون بفن الكتابة وثقافة فنية، لأننا شعرنا أن هناك من يحب أن يكتب فقط، لذلك، أتمنى مواكبة الحركة الفنية، ولاسيما أن وفداً أجنبياً سائحاً مرّ البارحة، وشاهدنا نعمل، فقال لنا: لا بد وأن سورية ضجّت بأعمالكم ومشاريعكم وفنونكم، لذلك، أرجو الارتقاء بالصحافة لأنها فن أيضاً”.