“كلّ الشّمس في قلبي” ولا نهايات سعيدة تُكتب
نجوى صليبه
“من يرى مصيبة غيره، تهون عليه مصيبته..”، لعلّها العبارة الأولى التي خطرت في بالي وأنا أقرأ “كلّ الشّمس في قلبي” القصّة التي بدأ فيها عبد الله النّفاخ مجموعته القصصية التي تحمل العنوان ذاته، وفيها يتحدّث عن مصادفة تجمعه بصديق قديم في السّوق، ويسأله عن أحواله، فتأتيه الأجوبة الصّادمة واحداً تلو الآخر.. لقد ألقت الحرب بوجعها على كامل أفراد أسرته، فبناته الأربع فقدن السّمع مذ أخرجوهنّ من تحت الأنقاض، وقُطعت ساق زوجته، أمّا هو فلا يستطع صعود الحافلة لولا مساعدة الآخرين.
ويقف النّفاخ كثيراً عند تبعات الحرب وانعكاساتها القاسية التي طالت الجميع ولاسيّما الشّباب، ويلخّصها في الصّفحة السّابعة على لسان “فوّاز” الذي لم يتذكّر صديق الدّراسة عندما رآه بعد زمن وهو يؤدّي واجبه بالحفاظ على سلامة النّاس، فيقول له مبرراً: عذراً أستاذ، لكن بعد سبع سنوات على خطّ النّار، هل تتوقّع أنّي أتذكّر شيئاً ممّا تقول؟ لقد رأينا الهول أمام أعيننا، فغادرت من رؤوسنا كلّ الذّكريات، ولم نعد نعرف إلّا المرّ الذي ذقناه.
وعلى لسان أنثى هذه المرّة، وفي قصّته “لم أقف إلى جانبك” (ص 24)، يقارب النّفاخ عبثية الأقدار ومفاجآتها وعدم القدرة على التّحكّم بردود الأفعال تجاهها، فبعد أنّ أخذتها الشّكوك والظّنون والمخاوف من تعرّض ابنها “شادي” لمكروه، تضحك بصوتٍ لفت نظر من وُجد في المشفى الكبير بعد أن عرفت أنّ “أمّ سالم” حماة أخيها وصديقتها هي التي في خطر صحّي، وحين يخرج الطّبيب قائلاً: البقية في حياتكم.. تعود إلى حزن عميق وشعور بالذّنب.
يخوضُ النّفاخ في المواضيع الاجتماعية على اختلافها، فنراه يتحدّث حول مسألة تُعرف في هذه الأيّام بـ “التّنمّر” على شكل شخص، وجهه أو شعره، فيقصّ في “العقل وحده لا يكفي” (ص55) رفض شاب الارتباط بفتاة متعلمة ومثقّفة ودارسة فقط لأنّها ليست جميلة، وفي “أهي لعنتها” (ص94) يروي كيف أنّ بطل القصّة لم يوّفق في اختيار شريكة حياة مناسبة، متذكّراً لحظة غرور ذكورية دفع فيها فتاة طيبة خلوقة “أماني” لتصارحه بحبّها، ومن ثمّ يصفعها بحقيقة خطبته من فتاة أخرى لا تلبث أن تتخلى عنه وتتركه لعقد نقصه.. إنّه كمن أيقن وأسلم لمقولة “كلّ ما تفعله اليوم تلقاه غداً”، وبالمستوى ذاته يخوض في المواضيع الثّقافية على تنوّعها وتنوّع مشكلاتها وقصصها، فنراه يكتب بعين الرّقيب وبحسّ المجرّب للنّفاق الموجود في الوسط الثّقافي والذي بات لا يخفى على أحد، لكنّ الكثير يفضّل الصّمت والمجاملة على قول الحقيقة واتّخاذ موقف مشرّف تمليه الثّقافة والأدب والأخلاق، كما في “حضرة الأديب الكبير” (ص30)…
ربّما كانت كلّ تلك المصائب والمعضلات سبباً لوصول الكاتب إلى اكتئاب طويل غالباً ما صرّح به على الملأ، ولم يكن من السّهل عليه التّخلّص منه لا في الواقع ولا في الأدب، فنقرأ تحت عنوان “اكتئاب” في الصّفحة السّادسة عشرة: “ولبث على جمر التمزّق أياماً، شهوراً، سنين، يشتهي الموت أو الموت يشتهيه ليس يدري..”.
هو الحزنُ يخيّم على معظم القصص إن لم نقل كلّها، بما فيها تلك التي تتحدث عن الحب، إنّها تتحدث عنه فقداً وعذاباً وخيانةً وصدّاً ونفاقاً ومصلحةً، حتّى الصّبر الذي نمنّي النّفس فيه لم يكن كذلك في هذه المجموعة القصصية، إذ نقرأ تحت عنوان “الصّبر” في الصّفحة الثّالثة والعشرين: “حاول أن يرفع صوته بقوله: آه، فأحاط به الجميع موجّهين نحوه سباباتهم قائلين: اصبر.. اصبر.. اصبر.. تضاءل كلّ شيء في قلبه وانطوى على نفسه وتقوقع في إحدى الزّوايا دقائق من الزّمن.. ثمّ مات”. أمّا نهايات هذه القصص فحزينة كحزن أبطالها وأحداثها، فهي إمّا موت أو فقد أو رحيل.
لا يحدّد النّفاخ زمناً أو مكاناً لأحداث قصصه، لا حقيقياً ولا متخيّلاً، إلّا في عدد قليل جدّاً، وربّما حصرهما بتلك الأحداث الخاصّة فيه فعلاً، كأن نقرأ تحت عنوان “في ليلة شتائية باردة”: “كانت ليلة شتائيةً باردةً غريبة من شهر كانون الأوّل عام 1991 وكانت ثالثة ليالي عزاء جدّتي لوالدتي”. ونقرأ تحت عنوان “في ساحة في دمشق”: “جاوزت تقاطع شارع الحمراء- عرنوس، واتّجهت مصعداً نحو ساحة الجسر الأبيض، حيث وقعت عيني عليه”. كما أنّه لا يعبّر عن أي رابطة تربطه بهذا المكان أو يصف مشاعره تجاه هذا المكان ولو ببضع كلمات، كذلك الأمر بالنّسبة للشّخصيات يسرد ما تفعله غالباً من دون تحديد خلفية اجتماعية أو نفسية لتلك الأفعال.
ولا يعطي النّفاخ تصنيفاً محدّداً لمجموعته القصصية، أي هل هي قصيرة أم قصيرة جدّاً أم طويلة، لكنّه تركها حرّة من أيّ قيد، مجنّباً نفسه بذلك التّنويه بوجود قصّة -من طولها- ولو أنّه أتعب نفسه قليلاً وصبر عليها لأصبحت رواية، نقصد “أكانت أخوة!!” التي يبدأها بالصّفحة الثّامنة والخمسين وينهيها بالصّفحة السّابعة والثّمانين من دون ضرورة أو هدف واضحين، فالقصّة كان من الممكن أن تنتهي بصفحتين لا بل ويصل المعنى بسلاسة وإيجاز أكثر ومن دون أن يصيب القارئ بالملل أو الشّك، وأقول عن نفسي من شدّة استغرابي عددت الصّفحات مراراً وتكراراً لأتأكد إن كنت مخطئة أم لا.. فيما عدا ذلك فقد سرد القصص بلغة بسيطة وقوية وهو المعروف بذلك.
بقي أن نشير إلى أنّ “كلّ الشّمس في قلبي” صادرة عن دار توتول (2022)، وتقع في مائة صفحة، وتضمّ ثماني وعشرين قصّة، وسبقها مجموعة أخرى للكاتب حملت عنوان “وردة عند الغروب” صادرة عن دار سين (2021).