استراتيجية الأمن القومي الأمريكي أشبه بـ “المؤامرة”
ترجمة: عناية ناصر
أصدر البيت الأبيض مؤخراً استراتيجيته الجديدة للأمن القومي، والتي تعتبر وثيقة مهمة تعكس توجه الشؤون الداخلية والدبلوماسية للحكومة الحالية. بعد قراءة الوثيقة المؤلفة من 48 صفحة، ينتاب المجتمع الدولي عموماً إحساس قوي بعدم الارتياح والقلق، لأن “الأمن القومي” الذي تنتهجه الولايات المتحدة يأتي على حساب أمن الدول الأخرى. وفي حال تم اتباع المسار والاتجاه المنصوص عليهما في التقرير، فإن القوة العظمى للولايات المتحدة ستذهب عاجلاً أم آجلاً في الاتجاه المعاكس للسلام والاستقرار العالميين، وستكون العواقب وخيمة لدرجة لا يمكن تصورها.
تأخر إصدار تقرير الإستراتيجية لعدة أشهر، بسبب العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لكن يبدو من التقرير أن الولايات المتحدة لم تدخل بشكل عميق في السبب الجوهري للصراع، إضافة إلى عدم استخلاص أية دروس من تلك الحرب. وبدلاً من ذلك، عززت الوثيقة المواجهة بين المعسكرات، وعقلية المعارضة الثنائية التي أدت إلى اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا. والأخطر من ذلك، إن الولايات المتحدة ضاعفت من عقلية الحرب الباردة هذه في علاقاتها مع الصين، حيث كانت المنافسة مع الصين تغطي كل فصل من التقرير، معتبرةً الصين “التحدي الاستراتيجي الأكثر إلحاحاً”.
على الرغم من أن بعض وسائل الإعلام الأمريكية زعمت أن التقرير “لا يتضمن أي تحولات كبيرة في النهج أو التفكير”، إلا أنه يعني في الواقع أن إدارة بايدن قد فشلت في إجراء أي تعديلات على موقف إدارة ترامب الراديكالي تجاه الصين، و يبدو إلى حد ما أنها تديم هذا التقدير الخاطئ أو تعززه، وذلك نتيجة المنافسة الشرسة بين الحزبين في الولايات المتحدة، حيث ينظر الجانبان إلى معاداة الصين على أنها نوع من “الرهان الانتخابي”.
لاحظ الرأي العام إصدار حكم صارم للغاية في التقرير، وهو الادعاء بأن “حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت نهائياً”. إذن، ما هو العصر الآن؟ لم يقدم التقرير أية إجابة حول ذلك، بل إنه يؤكد بشكل ميكانيكي أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى صراع أو حرب باردة جديدة”. ومع ذلك، فإن التقرير مليء أيضاً بالتفاخر والعنجهية بما يسمى بإنجازات التحالفات العسكرية مثل حلف الناتو، واتفاقية “أوكوس”.
وذكر التقرير بشكل تفصيلي خطوات الولايات المتحدة للتنسيق مع حلفائها لإطلاق منافسة جيوسياسية ضد دول أخرى، مما يحول التزام التقرير بعدم السعي إلى حرب باردة جديدة إلى أمر مبتذل، كما يقسم التقرير ببساطة العالم التعددي إلى “منافسة بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية” وفقاً لإرادة الولايات المتحدة، بهدف قطع جذور إمكانية التعايش السلمي والمتناغم بين الحضارات المختلفة. وهذا هو أبلغ تعبير بأسلوب الحرب الباردة في استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث تعكس ممارسات واشنطن الفعلية أيضاً لعبة خاسرة محصلتها صفر، الأمر الذي يجعل ادعاء الولايات المتحدة المتعلق بـ “إدارة المنافسة مع الصين بطريقة مسؤولة” زائفاً.
مرت 31 عاماً على نهاية الحرب الباردة، لكن النخب السياسية في واشنطن لم تتعلم التعايش مع الدول الأخرى بطريقة جديدة، فقد فشلت أو حتى رفضت قبول التغييرات الجوهرية للعصر والتكيف معها، وهي لا تزال بحاجة إلى تأسيس آليات إحداثياتها الخاصة وتوجيه طريقها من خلال إنشاء “أعداء وهميين”، كما لو أنها لا تعرفون حتى كيفية المضي قدماً بدون “عدو وهمي”. ومع ذلك، فإن هذا النهج له آثار جانبية خطيرة جداً. لقد أوجدوا “العدو الوهمي” الخطأ، بل وخلقوا “أعداء” و”خصوماً” لا تستطيع الولايات المتحدة التعامل معهم.
يجسد التقرير الجديد الأنانية والطموح وأعمق مخاوف النخب السياسية في واشنطن، إذ تؤكد أمريكا، في جميع تقاريرها المتعلقة بإستراتيجيتها الوطنية، على “قيادة” الولايات المتحدة. الطموح أمر مشروع، لكن ماذا تريد الولايات المتحدة أن تفعل بـ “قيادة” العالم؟ يظهر التقرير أن الولايات المتحدة لا تزال تحاول خلق الانقسام والمواجهة في هذا العالم، وهناك أيضاً العديد من المحتويات المتناقضة والمربكة منطقياً في التقرير، والتي تعكس عجز الولايات المتحدة وعدم كفاءتها في مواجهة القضايا العالمية الحقيقية، سواء من حيث الإدراك أو الأساس العقلي والرؤية، حيث تراجعت واشنطن بشكل خطير عن التطور المعقد للهيكل الدولي، واحتياجات العصر الحالي.. لقد فقدت واشنطن عقلها في سعيها لقمع واحتواء الصين.
في الواقع، من خلال مقارنة الخطط المستقبلية للصين والولايات المتحدة، ليس من الصعب أن نجد أن توقعات واشنطن للسنوات العشر القادمة مليئة بالمواجهة والتفكير الصفري، بينما تركز خطط الصين على تنميتها الخاصة والتعاون المربح للجانبين مع المجتمع الدولي. إن أفكارهما التنموية مختلفة تماماً، أحدهما مليء بالعداء والآخر لطيف وودود، أحدهما يبحث عن أعداء في كل مكان، والآخر مكرس لتكوين صداقات، لكن أياً من الاتجاهين هو الأصح سيجيب التاريخ عن ذلك.
أما فيما يخص التقرير الأخير عن استراتيجية الأمن القومي فهو أشبه بـ “مؤامرة” تفتقر إلى الحداثة، ولكنها مليئة بالنوايا الخبيثة، وهو تقرير خطير على العالم، فكيف يمكن للولايات المتحدة ضيقة الأفق الادعاء بأنها قادرة على “قيادة” العالم؟ وكيف يمكنها أن تجعل المجتمع الدولي خاليا من الهموم؟