هل يتحوّل المزاج الأوروبي بعد صعود ميلوني إلى اليمين
البعث الأسبوعية – ميادة حسن
لم تكن بروكسل لتتوقّع في أسوأ الأحوال أن تكون مواقفها السلبية من العلاقة مع روسيا، والتداعيات الخطيرة التي نتجت عن العقوبات الغربية الأحادية المفروضة على روسيا من جانب واحد، بداية لتحوّل الشارع الأوروبي بهذه الطريقة نحو اليمين، حيث ساهمت السياسات المتخبّطة للحكومات الأوروبية الموصوفة باليسارية التي أنتجت الكوارث والأزمات الاقتصادية، في ظهور الأحزاب اليمينية التي توصف بالمتطرّفة في أوروبا، رغم أنها في كثير من الأحيان تتبنى سياساتٍ هي أقرب ما تكون إلى المعايير الوطنية والأخلاقية.
ولم يكن صعود الأحزاب اليمينية في كل من فرنسا وهنغاريا والنمسا طفرة بالنسبة إلى المزاج العام السائد في أوروبا حالياً، وخاصة بعد الانقسام الكبير الحاصل في الشارع الأوروبي على خلفية الموقف من العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا وما تلاها من عقوبات أوروبية غير مدروسة على روسيا، وخاصة قطاعي المصارف والطاقة، حيث انعكست هذه العقوبات نقصاً في موارد الطاقة في أوروبا وتضخماً في أسعار المواد والسلع، فضلاً عن التداعيات المباشرة للدعم المفتوح المقدم للنظام الأوكراني على اقتصادات الدول الأوروبية التي بدأت شعوبها تتململ وتعبّر عن ذلك بحركات احتجاجية في الشوارع يمكن أن تتصاعد بشكل غير مسبوق في قادم الأيام، وخاصة مع بداية فصل الشتاء القاسي والنقص الحاد في وقود التدفئة.
ضمن هذا المشهد الأوروبي القاتم، بدأ المزاج العام في أوروبا في التحوّل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، حيث اتجهت إيطاليا، وهي ثالث اقتصاد في منطقة اليورو، بزعامة جورجيا ميلوني التي عرّفت عن نفسها ضمن خطاباتها بقولها: “أنا جورجيا.. امرأة إيطالية مسيحية”، نحو اليمين بشكل مفاجئ، وعبّرت عن ذلك هذه السيدة من خلال إيمانها العميق بشعار الفاشيّة الإيطاليّ القديم، وهو “الله الوطن العائلة”.
اعتلاء ميلوني رئاسة الحكومة في إيطاليا بهذا التوقيت بالذات لا يبدو مرضياً للعديد من الدول الأوروبية، إذ من الممكن أن يكون مقدّمة لسقوط حكومات يسارية أخرى في أوروبا مفسحة المجال لليمين الذي يمكن أن يكون أكثر تطرّفاً من اليمين الإيطالي، بينما أظهرت واشنطن على الضفة الأخرى من الأطلسي استهجانها للأفكار التي طرحتها ميلوني خلال خطاباتها العديدة، حيث هاجمت المجتمعات الأوروبية ورفضت العلمانية وتحويل المواطنين الإيطاليين إلى مستهلكين والتعامل معهم كأرقام فقط، وشاركت في مظاهرة لرفض المثلية وعدم تقبّل منحهم أحقية التبنّي، وكل ذلك طبعاً يتعارض مع السياسات التي تنتهجها الحكومات الأمريكية المتعاقبة، وهذا ما جعل الصحافة الأمريكية تصفها باليمينية المتطرّفة، لكنها رفضت هذه الأوصاف وعدّتها هجوماً عليها.
أما في الداخل الإيطالي فقد وُصفت ميلوني بأنها شعبوية وترفض الأفكار الغربية التي تهدّد المجتمع الإيطالي المسيحي، فهي ترفض السماح بالإجهاض والموت الرحيم، وجميع ما يتعلق بما يُعرف بالاتحاد المدني، وهناك محللون أكدوا أن جزءاً كبيراً من الإيطاليين الذين صوّتوا لميلوني وحزبها هم من الكاثوليك الذين يصنّفون أنفسهم “مناهضين للتيار الفرنسي التقدّمي في الكنيسة”، إذ يرَون أنه يحيد عن القيم التقليدية للمسيحية، وبالمقارنة مع التوجّهات الغربية والأميركية التي توافق على الإجهاض وسمحت بحمل السلاح ودعمت المثليين ودافعت عنهم، نجد أن ميلوني تحلّق خارج السرب وترفض الانحلال الأخلاقي الذي وصلت إليه أوروبا وأميركا بشكل خاص، وهذا ما فرض عليها مواجهة اجتماعية، وخلق لها اشتباكاً حقيقياً مع التوجّه العام، حيث ذكرت في أحد خطاباتها أنها تسعى للحفاظ على العائلة الإيطالية، وهي داعمةٌ للحركة المناهضة للنوع الاجتماعي أو الجندر، وهذا ما جعل رؤساء كثيرين يُثنون على توجّهاتها التي تتلاقى مع توجّهات روسيا في محاربة الأفكار الغربية والغريبة عن المجتمعات الأخرى.
ميلوني التي أبدت تعاطفاً كبيراً مع المسيحيين الذين تعرّضوا للتهجير الممنهج من تنظيم “داعش” في كل من سورية والعراق، وأكدت أن الجيش السوري هو الذي حمى الوجود المسيحي في سورية، يؤخذ عليها أنها وجّهت خطاباً ترفض فيه استقبال اللاجئين من الدول التي تعرّضت للحرب، وأنها لا ترغب في السماح لهم بالدخول إلى إيطاليا، كما ترفض التعدّدية الثقافية التي تهدّد الثقافة والمجتمع الإيطالي، ويبدو أن لها وجهة نظر مختلفة نحو العرب، حيث أيّدت التدخّل في ليبيا، وهاجمت دول الخليج كالسعودية وقطر لأنها دول تدعم الإرهاب وتنشره، بالإضافة إلى أنها دول تحرم مواطنيها من حقوقهم وحرياتهم.
التناقضات تحيط بمواقف ميلوني حول مجموعة من القضايا العالمية، فهي تتوافق مع التوجّه الروسي في الحرب على أوكرانيا، حيث أيّدت وجود علاقات أفضل مع روسيا، لكنها، وربما على سبيل المناورة، أدانت العملية الروسية وتعهّدت بمواصلة إرسال الأسلحة إلى كييف داعمةٌ حلف شمال الأطلسي في ذلك، وهذا يترافق مع عدم قناعتها بالاتحاد الأوروبي، فهي تدعو إلى الانسحاب من منطقة اليورو.
التوجّه المسيحي لميلوني ليس بالضرورة أن يكون مقبولاً من البابوية التي لن تكون سعيدة بانتصار الأحزاب اليمينية، فعلى الرغم من أن البابا فرنسيس له مواقف مناصرة للفقراء والقوانين المتسامحة مع المهاجرين، غير أن السياسيين اليمينيين لهم مواقف معاكسة تماماً، وخصوصاً في موضوع الهجرة، وفي وقت تتفق فيه الكنيسة مع شعارات بعض تلك الأحزاب حول حماية العائلة ورفض الإجهاض ورفض الموت الرحيم، إلا أن الكثيرين منهم يرون أن الكاثوليك الذين صوّتوا لميلوني وحزبها يصنّفون أنفسهم على أنهم “مناهضون للتيار الفرنسي التقدمي في الكنيسة”، إذ يرَون أنه يحيد عن القيم التقليدية للمسيحية.
ميلوني التي تدير إيطاليا بأفكارها الجديدة تقسم السياسة في بلدها إلى مؤيّد ومعارض لفكرة تخلّي إيطاليا عن التوجّهات والثقافات الأوروبية، كما تثير جدلاً واسعاً حول العودة إلى الكنيسة والتمسك بالمعايير الأخلاقية والإنسانية.
وفي المحصلة، لا يمكن النظر إلى ما يحدث في أوروبا حالياً على أنه أمر عادي، بل ربّما يكون مقدّمة لتحوّل كبير في مزاج الشارع الأوروبي قد يؤدّي إلى التوجّه نحو الاستقلال عن واشنطن وتغيّر البوصلة نحو الشرق، وهذا ما تخشاه الولايات المتحدة وتحارب لمنعه.