مجلة البعث الأسبوعية

قرارات ارتجالية تُربك الأسواق وتُلهب الأسعار والمستفيد الوحيد التجار والمحتكرون!

البعث الأسبوعية ـ علي عبود

تُحيّرنا بعض الوزارات فيما تصدره من قرارات تتعلق بالاستيراد والتصدير والأسعار، فلا تمر ساعات على صدور قراراتها حتى نكتشف بأنها ارتجالية لم تستند إلى أي معطيات واقعية ورقمية.

كلنا تابع القرارات التي تصدر منذ سنوات وتحديدا عن اللجنة الاقتصادية، لقد كانت جميعها، والاستثناءات نادرة وتكاد تكون معدومة، منحازة لقلة من المستوردين والمحتكرين، عانى من تبعاتها المنتجون وملايين الأسر السورية. وإذا كانت بعض الوزارات تراجعت عن قرار ما، فإنها لا تستدركه بقرار مفيد أو بآليات لا تربك الأسواق ولا تُلهب الأسعار!.

ما حصل مؤخرا بصدور قرار يسمح بتصدير كميات من محصولي الحمضيات والزيتون خير مثال على القرارات الارتجالية غير المستندة إلى معطيات رقمية وواقعية!، ولا نظن أن أحدا يعارض التصدير لو كانت حصيلته الدولارية ستعود إلى المصرف المركزي، أو ستزيد من أرباح المنتجين، أو بالأحرى ستجنبهم الخسائر التي يتعرضون لها في كل موسم، لكن الجميع يعرف أن الحصيلة الدولارية مصيرها المصارف الخارجية، وليس الوطنية، ولا حتى الخزائن السرية!.

 قرار يُخفي مادة الزيت!

ما أن صدر قرار بفتح باب تصدير زيت الزيتون حتى بدأ التجار بسحب المادة من الأسواق وتخزينها في مستودعاتهم، ليس بهدف تصديرها، وإنما لاحتكار إنسيابها إلى الأسواق للتحكم بأسعارها، فالاحتكار كان ولا يزال محور نشاط كبار التجار والمستوردين، ولم تستطع وزارة التجارة رغم ضجيجها الإعلامي التدخل الفعلي عبر صالاتها لكسر الاحتكار!، فجأة أصبحت مادة زيت الزيتون عزيزة المنال وتكاد تغيب عن الأسواق باستثناء كميات قليلة لا يقل سعر الكيلو منها عن 25 ألف ليرة، أي أن قرار تصدير المادة رفع سعر الكيلو منها 7 آلاف ليرة خلال ساعات قليلة، طبعا وزارة التجارة الداخلية تكتفي بالتهديد والوعيد وضرب المخالفين والمحتكرين بيد من حديد، دون أن يلمس المستهلك أي نتائج لهذا الضجيج سوى المزيد من الاحتكار ورفع للأسعار!.

 لمصلحة من

والسؤال: لمصلحة من صدر قرار تصدير 45 طنا من زيت الزيتون؟ أليس ملفتاً، بل ومريباً، أن يصدر قرار بتصدير مادة أساسية لملايين الأسر السورية قبل إنتاجها؟ نظريا القرار لمصلحة المنتجين، لكن فعليا القرار لمصلحة التجار، فمن لم يعقد أتفاق “ضمان“ الموسم مع الفلاحين أسرع بشراء المعروض من الموسم الماضي، وسيشتري كميات كبيرة من الموسم الجديد ليخزنه ويتحكم بعرضه ليزيد أسعاره!.

كان يفترض أن يصدر قرار التصدير بعد أشهر من طرح إنتاج الموسم الجديد من زيت الزيتون في الأسواق، أي بعد إتاحة من يقدر على شراء حاجته من المادة، وبعدها يصدر قرار بالتصدير في حال عانى المنتجون من تسويق مخازنهم من المادة، فلماذا التسرع بقرار تصدير أطنان من زيت الزيتون قبل إنتاجها وطرحها في الأسواق والاستهلاك؟ ومن الطبيعي أن ينظر المتضررون من هكذا قرار بشك وريبة ولا يرون فيه سوى خدمة لحيتان التجار والمحتكرين! ومن الملفت أن يعترف مصدر في وزارة التجارة الداخلية لم يجرؤ على ذكر اسمه، ربما خوفا من غضب وزيره “أن قرار الإعلان عن تصدير زيت الزيتون قبل الانتهاء من قطاف وعصر الزيتون خاطئ وسابق لأوانه، وكان يفضل الانتظار حتى انتهاء جني المحصول بكل تفاصيله“! لكن، لا وزارة الاقتصاد تراجعت، ولا وزارة التجارة أعلنت أنها ستتدخل من خلال شراء أطنان من موسم الزيت الجديد للجم ارتفاع الأسعار، بل ما حدث أن وزارات الزراعة والاقتصاد والتجارة اعتبرت القرار إنجازا، وربما استغربت الردود المنتقدة والغاضبة على صدور قرار ألهب الأسعار وأسعد التجار!.

 توقيت سيئ جدا!

ولا يُمكن وصف القرار بتصدير مادة زيت الزيتون إلّا بالسيئ جدا، بل لا ندري لماذا يصدر قرار بالتصدير قبل الانتهاء من عصر المحصول كاملا، أي بعد معرفة الكميات الفائضة عن حاجة السوق، ومصطلح “الفائض” هنا مجازي، فما دامت المادة عصيّة على ملايين العاملين بأجر، ولا يحصلون سوى على القليل منها لعجزهم عن شراء مؤونتهم لسنة كاملة كما كانوا يفعلون دائما، فإن الفائض كبير جدا!.

لقد وجد التجار المحتكرون بالتوقيت السيئ لقرار تصدير زيت الزيتون فرصة جديدة لزيادة أرباحهم فسحبوا المادة من الأسواق، وهي من إنتاج العام الماضي، ورفعوا سعر المعروض منها بنسبة 38 % بذريعة أن الماد ة شحيحة بسبب قرار التصدير! ومن الآثار السيئة جدا لقرار تصدير كميات محددة من زيت الزيتون أثناء عمليات جني ونقل وعصر الزيتون تحميل المزارعين كلف إضافية، فالكل من عمال القطف إلى أصحاب آليات النقل فمعامل العصر رفعوا أجورهم بذريعة إن المادة ارتفعت أسعارها، والمنتجون ليسوا بمتمكنين ليفرضوا استرداد هذه الكلف الناتجة عن توقيت القرار السيئ من التجار، فزبائن البيدونات الذين يشترون مباشرة من المزارعين أصبحوا قلة بفعل انخفاض القدرة الشرائية، بل انعدامها، أما “الضمينة” وهم الغالبية فلا يهتمون كثيرا بارتفاع الكلف المستجدة، بل أنهم سيستغلون قرار تصدير المادة وسيخزنون مادة الزيت ويتحكمون بعرضها في الأسواق لرفع أسعارها بذريعة تصديرها للخارج، يساعدهم قي الاحتكار إن المادة وعلى عكس الحمضيات قابلة للتخزين لعدة أعوام! التاجر الأكبر لا يتدخل ولكي لا يُفهم من كلامنا إننا ضد التصدير، فإننا نؤكد أننا مع الشعار الذي رفعته حكومة تسعينات القرن الماضي “تصدير ما يمكن تصديره” وليس تصدير الفائض فقط، ولكن دون أن يؤثر التصدير على حصول الأسرة السورية على احتياجاتها من السلع الغذائية الأساسية، فتصدير الأغنام العواس في السابق كان مرتبطا باستيراد ضعف المصدر أي الأرخص من الأغنام المخصصة للاستهلاك المحلي بسعر أقل من البلدي، والخيار متاح أمام المستهلك مابين اللحم البلدي والمستورد!، والإشكالية في مادة زيت الزيتون هي نفسها بالمواد الأخرى، وسواء تم تصدير الزيت أم لم يُصدر فلن يباع بأقل من تكلفته، أي سيبقى سعره أعلى بكثير من قدرة ملايين الأسر السورية، وبالتالي فالفائض في المادة وهمي وليس فعلي، ولا يمكن حل هذه الإشكالية طالما لا تقوم وزارة التجارة الداخلية بدورها الفعلي التدخلي المباشر، أي بكونها التاجر الأكبر في السوق! يُفترض أن تقوم “السورية للتجارة“ بشراء كميات كبيرة من زيت الزيتون وتعبئتها في عبوات سعة ليتر أو ليترين وتوزيعها على الأسر السورية عبر البطاقة الذكية شهريا وليس على دفعات كما يحصل حاليا في مادتي الرز والسكر، بسعر التكلفة أو أقل لتأمين هذه المادة الأساسية لجميع السوريين ، وبعرض المادة بالسعر الحر في صالاتها بما يؤدي لتخفيض سعرها في السوق أيضا، وبما يتيح لمن لا تكفيه عبوة واحدة أن يشتري حاجته منها بما يناسب دخله لا بما يناسب التاجر المحتكر!.

الخلاصة:

تصدير ما يمكن من فائض زيت الزيتون قرار جيدا، ولكن بعد أن تتكفل وزارة التجارة الداخلية بالتوازي مع قرار التصدير بتأمين المادة لملايين الأسر السورية شهريا عبر البطاقة الذكية بأسعار تناسب دخلها من جهة، وأن تضمن الحكومة عودة عائدات التصدير من القطع الأجنبي إلى خزينتها لا إلى جيوب حيتان التجار لتهريبها إلى الخارج!!.