كمال خيربك المناضل العنيد: شاعر الحداثة وفارس التجديد
“البعث الأسبوعية” محررة الصفحة الثقافية
“كمال خيربك شاعر يرسم معالم الحداثة والنهضة” بهذا العنوان يستحضر الدكتور وائل بركات سيرة الشاعر السوري البارز كمال خيربك (1935-1980) الذي قدم نفسه قرباناً على مذبح الحداثة الشعرية والنضال السياسي والعمل المقاوم. ولعل قليلين من قراء الجيل المعاصر يذكرون هذا الاسم الذي طواه النسيان بظلم فادح. فقد كان كمال -مثل كثيرين من معاصريه- يحلم ببناء دولة حديثة بالمقومات التي استقرت في العصر الحديث والتي تقوم عل المواطنة والمساواة واعتماد معطيات العلم والتقدم والتخلص من الأمراض التي هيمنت على المجتمعات البشرية لقرون وقرون. لكن الحلم الذي راود كمال وأقرانه وأمضى عمره يشهد تراجعه وضياعه لم يثنه عن التمسك به حتى آخر لحظة من حياته حين دفعها بموت مأساوي ثمناً لمواقفه التي لم تتزحزح يوماً، بل على العكس ازدادت قوة وصلابة مع كل يوم جديد عاشه.
عنوان الكتاب يوحي لنا بالمكانة المهمة التي شغلها بجدارة هذا الشاعر المقاوم الذي ربما يكون من أوائل الذي يستحقون هذا اللقب في الحقبة المعاصرة. وعلى صعيد التنظير للحداثة الشعرية يعدّ كتابه “حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر”، وهو رسالته للدكتوراه ناقشها في جامعة جنيف بسويسرا عام 1972 بعد أن اضطر لمغادرة السوربون في باريس لظروف سياسية ونضالية وصدرت بالفرنسية عام 1978 وترجمها أصدقاؤه إلى العربية وصدرت عام 1982، يعدُّ واحداً من الكتب المؤسسة للحداثة الشعرية العربية، ولا يقل أهمية عن تنظير نازك الملائكة في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” في هذا الباب، فقد أضاف على كتابها أشياء جديدة لاسيما ما يتعلق بتجربة الشعر الحر في بداية النصف الثاني من القرن العشرين التي عايشها خيربك عن قرب وكان واحداً من روادها المهمين.
في دواوينه بدأ ديوانه الأول “البركان” الذي صدر عام 1960، شاعراً متمكناً من التقليد الشعري. ثم انتقل فيالأربعة اللاحقة إلى الحداثة. كان لا يهتم بجمع قصائده في ديوان، وكان غالباً ما يكتب على قصاصات أو أغلفة علب السكائر حين تداهمه القصيدة، ينجزها ويودعها في زاوية ما، تراكمت وتجمعت وبالتأكيد ضاع الكثير منها. لكنرغبة مجموعة من الشعراء الأصدقاء حالت دون ضياع هذا الكنز الثمين كاملاً، فقامت بجمعه وإصداره في سنوات الثمانينيات.
يتوزع كتاب الدكتور بركات الصادر عن الهيئة السورية العامة للكتاب ضمن سلسلة آفاق ثقافية التي تهتم بالتعريف بالشخصيات الفكرية والثقافية المهمة على خمسة أقسام:
1-دراسة أعمال الشاعر: كمال خيربك ومعركة الحياة، الموت المأساوي، حادثة قتل أم جريمة تصفية؟ الفعل الثوري وفلسطين، ثنائية التخلف والنهضة، فكرة الانبعاث التموزية، الشعر والاغتراب، الحب، التنظير الريادي للحداثة الشعرية، في الإيقاع الشعري لليقظة العربية، ولادة حركة الحداثة ونضجها، تحولات اللغة الشعرية، من العروض إلى الإيقاع تشكيل القصيدة الحداثية؛
2-شهادات لمعاصرين وأصدقاء فيه: إلياس الديري، أدونيس، خالدة سعيد، إلياس خوري، أحمد فرحات، نصري الصايغ.
3-قصائد مختارة للشاعر.
4-مقالات نقدية تنظيرية حول النهضة العربية والحداثة الشعرية: الشعر مصير جديد، أدبنا بين الأصيل والدخيل، الذاكرة القومية والثقافة الغربية والشعر الحديث…
5-اختيارات من كتابه “حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر” حول اليقظة العربية: أزمة مجتمع وحضارة، بناء القصيدة الحديثة.
في مقدمته يعلن المؤلف “يأتي حديثنا في هذا الكتاب عن شاعر سوري يصنف بين شعراء الحداثة الشعرية والفكرية والاجتماعية في إطار محاولة التعريف بأعلام خطّوا بمجهوداتهم الفردية وتصوراتهم الفكرية والشعرية علامات فارقة في حركة النهضة المعاصرة التي احتاجتها الأمة العربية، ولم تنجح –للأسف- في ترسيخها إلى الآن واقعاً حياتياً ص.5.
لذلك ومن باب الوفاء للشخصيات المهمة التي أثرت مرحلة فكرية مهمة في تاريخنا المعاصر، وحملت هموم المجتمع وتطلعت نحو مستقبل أفضل، وقضت وهي تحلم به، يحاول هذا الكتاب إنصاف هؤلاء الذين أرادوا توفير مستقبل مشرق لأبناء هذه المنطقة “حياة آمنة مزدهرة تخلصهم من أوجاع لازمتهم قروناً من الزمن وسئموا منها، من باب الوفاء لهم والعرفان بجميلهم نعيد التذكير بما قدموه وبما فكروا به” ص. 8.
ولعل كمال خيربك واحداً من أبرز هؤلاء، فقد اضطلع بدور مهم في هذا المجال بوصفه شاعراً ومثقفاً ومناضلاً قدم أفكاراً حداثية وتحررية في المجالات المختلفة. يضاف إلى ذلك أن اسمه لازمه النسيان، فوجد المؤلف نفسه مدفوعاً لتخصيصه بكتاب يحاول أن يلقي الضوء على أعماله الشعرية وإسهاماته الحداثية شعرياً وفكرياً واجتماعياً، ويبرز جهد هذا الفارس في دعوته للتحرر الاجتماعي من تخلف هيمن على حياتنا تاريخياً ولا يزال ممتداً فيناً لا يفارقنا “فأشكال التخلف والتردي أصبحت موضع اعتداد وتمسك لا يقبل النقاش. وبدل التفكير في محاربتها والقضاء عليها صارت قيمة اجتماعية معزَّزّة ارتبطت بالهوية الاجتماعية” ص.7 فالنضال ضد هذا التردي يضاهي بلا ريب معركة التحرر من الاستعمار.
انصبّت جهود المفكرين والمثقفين التي شخّصت الواقع المتردي على تشخيص المشكلات والدعوة إلى التفلّت منها، وإلى استنهاض العقول والضمائر والهمم للخروج من مستنقع الجهل والتخلف والتقاليد البالية التي أعاقت تطور المجتمع ووقفت سداً مانعاً أمام لحاقه بركب الحضارة المعاصرة. وإذا كان هذا الصوت قد لاقى لنجاحاً في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ووجد لنفسه موضعاً مهماً في مشاعر الناس ووجدانهم فإنه بالمقابل لاقى رفضاً وعنتاً من القوى الظلامية المعيقة لحركة التحرر، فهي لا ترغب بمغادرة جحرها الذي اعتادته، وتمكنت من شيطنة هذا الصوت لأنه يحاول -كما تدعي- الخروج على التقاليد الثابتة، فبدا بنظرهم مساساً بالهوية وابتعاداً عن الأصول. وربحت المعركة.
لكن كمال كان قد استبق الأمر، فهو يعرف صعوبة معركته ضد الجهل والتخلف والتبعية، لذلك أعلن أن صوت التحرر لا يموت:
لا تقولوا مات صوت الشاعر الحر الغريب
قبل أن ينتشر في الأرض حريقه
لا تقولوا مات لم يكمل طريقه
ها رفاقي حملوا عني الصليب ص.26
أظهر خيربك في ديوانه الأول “البركان” تمكنه من الكتابة الشعرية التقليدية، فهو ممسك بزمام العروض وضالع بقضايا الوزن والقافية وفق التقاليد المتبعة، وربما جاءت موضوعاته الحماسية متناسبة مع الأوزان التقليدية. أما في ديوانه الثاني “مظاهرات صاخبة للجنون” 1965 فقد جرّب الحداثة الشعرية، وأنتج قصيدة بأشكال حداثية خرجت على الثابت المألوف وتكيفت مع أوضاع العصر من ضرورات التحرر والتخلص من رواسب الماضي والبحث عن عدالة في النظام الاجتماعي. ديوانه الثالث “وداعاً أيها الشعر” صدر عام 1982 أي بعد وفاته بعامين فقد واكب فيه “الحركة الحداثية بكل أبعادها الفكرية والشعرية وغيرها. فتبنى فكرة التمرد على القديم والعمل على بناء الجديد الذي يقف مع الإنسان المستضعف في مجتمع يتطلع نحو المستقبل، ولا يلوي عنقه وهو يستدير نحو الماضي. أما في الشعر فقد انتقل إلى القصيدة التي تتخفف من الضوابط الشكلية، وتطلق العنان للإبداع الحر الملائم لطبيعة العصر ولمتطلباته. وفي الوجهين أراده انتقالاً من القيود التي لم تعد مناسبة لحركية العصر ومستجداته إلى تصور مختلف يفسح المجال أمام مجتمع يعيش الحرية وشعر حداثي يعبر عنه” ص.35 .
في “دفتر الغياب” الصادر عام 1987، يحافظ على “سرديته المحورية التي لا تغيب عن معظم قصائده: كيف يخلص مجتمعه من جموده لينطلق في عملية بناء ذاته من جديد، متخففاً من قيود التقليد والاستنساخ التي ترفضها نواميس العقل ومعيار فوارق الأزمان والعصور والتي يعني التمسك بها إجهاضاً لعملية النهوض والخلاص. إنه يرفض طابع الجمود والاستكانة لصالح انفتاح العقل على الحاضر والتفكير بمستقبل أفضل لا يلغي الماضي، لكنه لا يعدّه العاملَ الوحيد، كما لا يمكن أن يكون عامل استلاب يضيع فرصة التفكير والعيش بطريقة تتناسب ومقتضيات العصر” ص.37.
أما ديوانه الأخير “الأنهار لا تتقن السباحة في البحر” 2007 الذي جمع فيه أصدقاؤه ما تبقى من قصائد لم تنشر في الدواوين السابقة فلا يخرج خيربك عن موضوعه الأثير الذي لم يفارقه في كل إبداعاته.
صحيح أن كمال خيربك -كما يبين الكتاب- مناضل عنيد، لكنه في الجوانب الحياتية كان إنساناً لطيفاً ومحباً وودوداً. وهذا ما كان يقوله عنه أصدقاؤه ورفاقه والمحيطون به. وتذكر زوجته خزامى قاصوف أنه كان يحترمها ويقدرها ويتعامل معها بكثير من الحب. ومن الطريف ذكر حادثة تعارفها إلى كمال في إحدى الأمسيات التي جمعتها به عند صديق مشترك: “كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، مخطوبة لرجل آخر، لكن قصاصة ورق صغيرة كتب عليها كمال عبارة شعرية مقتضبة بأربعة أشطار ووضعها في يدها أحدثت تغييراً جذرياً في حياتها وبدلت اتجاهها بالكامل ص.19. والعبارة الصاعقة هي:
بنصف نهارْ
تعلمتُ أنّ السماءَ بدونكِ
أضيق من نقطةِ الحبرِ…
أن الحياة انتحارْ…
وربما من الجميل الختام بمقطع قصير له ينبيء بالرهافة الشعرية الحداثية العالية عند كمال خيربك، يقول:
حملتْ ضحكتها تحت المطرْ
كالمظلة
ومضتْ يتبعها نهرٌ شررٌ
وأهِلَّهْ
فانحنى من حولها كل الشجرْ
الكتاب استحضار لشاعر واكب فرسان الحداثة الشعرية وحفر اسمه بين شعرائها البارزين.