التيارات اليمينية الشعبوية في أوروبا.. ألمانيا أنموذجاً
ريا خوري
ما زالت الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها على أوروبا بأكملها، وتنعكس بشكل كبير في إنعاش التيارات اليمينية الشعبوية، ومنحها المزيد من القوة على حساب تيارات اليمين التقليدي المعتدل، والتيارات الاشتراكية التي سيطرت وما تزال تسيطر على مقاليد السلطة في دول القارة الأوروبية العجوز.
في حقيقة الأمر، إنّ القضية المركزية التي تثير الجدل في الأوساط السياسية في العالم، وتعزّز مواقف الشعبويين اليمينيين، هي قضية الطاقة بالدرجة الأولى، لأن نقص الطاقة الكبير، وارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق هما المناورة الكبرى التي تدور حولها الحرب السياسية، والصراعات الحزبية الموازية لحرب الصواريخ والمدافع والدبابات.
وألمانيا الاتحادية التي تتصدّر التحالف الداعم الأكبر لأوكرانيا، تعتبر من أشد الدول التي تعاني حالات من الإرباك الداخلي من جرّاء أزمة الطاقة التي تفجّرت بعد بدء الحرب الأوكرانية. فقد كشفت نتائج الانتخابات التي جرت مؤخراً في ولاية ساكسونيا السفلى في غرب ألمانيا، تراجع التأييد للحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يترأسه المستشار أولاف شولتس، على الرغم من فوز حزبه برئاسة الحكومة في الولاية التي تعدّ ثاني أكبر ولاية في ألمانيا الاتحادية.
ونتيجة للانتخابات فقد نال الحزب الاشتراكي الديمقراطي نحو ثلاثة وثلاثين بالمائة من أصوات الناخبين الألمان في تراجع واضح، مقارنة مع نسبة سبعة وثلاثين بالمائة حققها الحزب في انتخابات عام ٢٠١٧ .
يقول مراقبون ومحللون في الشأن السياسي إن الفوز الذي حقّقه الحزب في الانتخابات التي جرت يوم الأحد في التاسع من الشهر الجاري، يعود بالدرجة الأولى إلى شعبية رئيس حكومة ولاية سكسونيا السفلى شتيفان فايل، الذي عمل كثيراً من أجل المحافظة على منصبه وسط موجة من الرفض والاحتجاج الشعبي على سياسات الحكومة المركزية. كما عكست نتائج الانتخابات أيضاً تراجع شعبية الحزب الديمقراطي المسيحي الشريك القوي في الائتلاف الحاكم.
إن أزمة الطاقة، والتضخم، والغلاء الفاحش، وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، والخوف من مستقبل غير واضح، هي العوامل التي تدفع باتجاه تراجع نتائج الحزبين وشعبيتهما في أوساط الناخب الألماني الذي ينشد الأمن والأمان والمحافظة على رفاهيته وتأمين احتياجاته.
ولهذا السبب، يرى المحللون السياسيون، والمراقبون أن اليمين الشعبوي المتطرف، الساعي لاستغلال حالة القلق والإحباط من مشكلات نقص إمدادات الطاقة، وارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق، هو الفائز الأكبر في الانتخابات. وللتأكيد على ذلك نال حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي المتطرف الذي يتزعمه يورغ موثين ١١،٥% من أصوات الناخبين، وهي نسبة تعادل ضعف النتيجة التي حققها الحزب في انتخابات عام ٢٠١٧. كما أن انتصار الحزب في ولاية ساكسونيا السفلى له رمزية كبيرة ومهمة، إذ إن قواعد الحزب الشعبوي التقليدية بعيدة تماماً عن هذه المنطقة.
تأسّس “حزب البديل” في العاصمة الألمانية برلين بتاريخ ٦ شباط عام ٢٠١٣ كردّ فعل على سياسة إنقاذ اليورو من أزماته، ولكنه لم يحقق عتبة الخمسة بالمائة من الأصوات المطلوبة لدخول البرلمان الألماني، خلال الانتخابات الفيدرالية في العام ٢٠١٣- ٢٠١٤ .
لقد أدّى ارتفاع أسعار الطاقة إلى تسارع التضخم النقدي الذي بلغ نحو عشرة بالمائة في شهر أيلول الماضي، وهو معدّل غير مسبوق منذ أكثر من سبعين عاماً في جمهورية ألمانيا الاتحادية. من جهته، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس عن خطة لتخفيف الأعباء بقيمة مئتي مليار يورو، لكن هذا المشروع وتلك الخطة لا يزالان متعثرين في الداخل ويعانيان من كثرة النقاشات والأفكار والطروحات، ويواجهان انتقادات حادة من جميع دول الاتحاد الأوروبي لعدم تمكنهما من مجاراة ألمانيا مالياً.
لقد أكد عدد كبير من الخبراء السياسيين في الشأن الألماني أن الانتخابات في ولاية ساكسونيا السفلى، هي استفتاء على سياسة المستشار أولاف شولتس، ومواقفه حيال الحرب الدائرة في أوكرانيا، وأزمة الطاقة الحادة.
من الواضح أن النتائج منحت “حزب البديل” الشعبوي اليميني المعارض للحكومة الألمانية المزيد من الزخم والتأييد لسياساته الداعية إلى عدم التورّط في حرب أوكرانيا، حيث يطالب قادة هذا الحزب بتعزيز أواصر العلاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأن ألمانيا لا يمكنها الاستغناء عن الغاز الروسي.