دراساتصحيفة البعث

هل تستفيق أوروبا من الإكراه الاستراتيجي؟

عناية ناصر

سيقوم المستشار الألماني أولاف شولتز بزيارة الصين في أوائل تشرين الثاني القادم وفقاً لوكالة بلومبيرغ. وفي حال ثبت صحة هذا الأمر، فإن تصريحاته الأخيرة بأن “الانفصال عن الصين سيكون المسار الخطأ”، وأن “العولمة كانت قصة نجاح مكَّنت من الرخاء” ستظهر بوضوح الاتجاه السائد لألمانيا. ما يعني إن إنهاء العولمة والانفصال عن الصين لتشكيل كتلة سياسية اقتصادية مغلقة نسبياً تهيمن عليها الولايات المتحدة، هو النمط الجيوسياسي الجديد الذي تحاول واشنطن الترويج له. وبالفعل لقد عززت الولايات المتحدة حصارها التكنولوجي ضد الصين، وأرادت دائماً جذب أوروبا بأكملها إلى عربتها الاقتصادية التكنولوجية، نظراً لأن بعض الدول والشركات الأوروبية تشعر أيضاً ببعض الضغط من التحديث الصيني، وهو ما يفسر تزايد الأصوات التي تردد النداء بمتابعة “الانفصال عن الصين” باتجاه الولايات المتحدة.

منذ العملية العسكرية  الروسية الخاصة في أوكرانيا، انفصل الغرب بأكمله عن روسيا بطريقة تشبه الصدمة، ثم تولت الولايات المتحدة زمام المبادرة في تهديد الصين إذا قامت بتقديم مساعدة عسكرية لروسيا، أو مساعدتها على التهرب بشكل من العقوبات. كما هددت الولايات المتحدة أن حل مسألة تايوان بالقوة، فإن الغرب سوف يعاقب الصين بنفس الطريقة كما فعل مع روسيا، وهو ما يعني “الفصل الكامل”، وهذا يعني أن الولايات المتحدة خلقت سيناريو مستقبلياً وإمكانية فصل كامل للغرب عن الصين، وهو ما يشكل في الواقع إكراهاً استراتيجياً فُرض على أوروبا وعليها المضي به.

قال جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، في خطاب له  إن ازدهار أوروبا مبني على الطاقة الرخيصة من روسيا، والوصول إلى سوق الصين الكبيرة، بالإضافة إلى الحماية الأمنية من الولايات المتحدة. من وجهة نظره، لم يعد هذا العالم موجوداً، وهذا يعكس العقلية المعقدة لبعض الأوروبيين.

ما قاله بوريل عن أهمية روسيا والصين للازدهار الأوروبي حقيقة لا جدال فيها، لأن أوروبا ليست الولايات المتحدة، كونها لا تمتلك قدرة الولايات المتحدة على ابتكار واحتكار تقنيات أشباه الموصلات والإنترنت، وهي ليست مكتفية ذاتياً في الطاقة، فأوروبا ككل تعيش في ظل الهيمنة الأمريكية، والحفاظ على الازدهار طويل الأمد يعني تحديات أكبر لأوروبا.

كانت أكبر قضية إستراتيجية في أوروبا بعد الحرب الباردة هي كيفية الحصول على المزيد من الاستقلال السياسي والاقتصادي، وخلق مساحة أكثر استقلالية من أجل ازدهارها. وتعتبر كل من الصين وروسيا شريكين، لا متنافسين، مع الاتحاد الأوروبي في إقامة استقلاليته الاستراتيجية، لكن خط أنابيب الغاز “نورد ستريم2″، الذي عارضته الولايات المتحدة بشدة، تعرض للتخريب الآن، ما يبشر بنهاية استخدام أوروبا للطاقة الروسية الرخيصة. ولزيادة تعزيز الفصل بين أوروبا والصين، كانت محاولة واشنطن قتل عصفورين، أو حتى ثلاثة، بحجر واحد، من خلال الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وستضرب بذلك  في نفس الوقت اقتصادات روسيا والصين، وتضع أوروبا في شراك التبعية للولايات المتحدة.

إن فصل القوى الكبرى الثلاث، الصين وأوروبا وروسيا عن بعضها البعض، سيكون أكثر ملاءمة للولايات المتحدة لهزيمة كل منها وتعزيز هيمنتها مرة أخرى، لكن بعض النخب الأوروبية تنبهت إلى ذلك الآن، حيث انتقد وزير المالية الفرنسي برونو لو مير الولايات المتحدة بشكل علني لدفعها نحو نقص الطاقة، ورفع أسعار الغاز الطبيعي المسال من خلال الصراع الروسي الأوكراني، قائلاً: “لا يمكننا قبول أن يبيع شريكنا الأمريكي الغاز الطبيعي المسال بأربعة أضعاف السعر الذي تبيعه لشركاتها الخاصة”. وقال: “إن الصراع في أوكرانيا يجب ألا ينتهي بالسيطرة الاقتصادية الأمريكية وإضعاف الاتحاد الأوروبي”.

عبر شولتز ووزير المالية الفرنسي في الواقع عن نفس الاستياء والشعور بالأزمة، مشيرين إلى أنه بعد الصراع الروسي الأوكراني الذي استمر لأكثر من نصف عام، وجد الأوروبيون تدريجياً أن الاتجاه الاستراتيجي للوضع آخذ في التحول بشكل خطير و غير موات لأوروبا، وأصبحت الولايات المتحدة المستفيد الأكبر من الحرب، وتحاول توسيع المكاسب أحادية الجانب الخاصة بها.

بالإضافة الى ذلك، لا يوجد صراع جيوسياسي بين الصين وأوروبا، حيث عززت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً نظرية اعتبار الصين خصماً جيوسياسياً للغرب بأكمله، وكل ذلك من أجل مصالح واشنطن وأنانيتها. ولأن الولايات المتحدة لديها سيطرة قوية على النخب الأوروبية، فإن بعضاً من  تلك النخب يتجاهل المصالح الأوروبية، ويتفاخر بالحيل الاستراتيجية الأمريكية باعتبارها تخدم المصالح الأوروبية. لكن في المقابل، يتمتع الصينيون بإرادة إستراتيجية حازمة، ويؤمل أن يتمكن الأوروبيون أيضاً من الحفاظ على رصانة أساسية، وألا يتم اختطافهم من قبل الولايات المتحدة. ففي الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، ارتفعت استثمارات الشركات الأوروبية في الصين بنسبة 123.7 في المائة، كما يواصل العديد من عمالقة التصنيع الأوروبيين الرهان بجزء من مستقبلهم على التعاون مع الصين، وهم يعبرون عن موقفهم تجاه سياسة أوروبا تجاه الصين بأفعالهم.

على العكس من ذلك، تفيد التقارير أن حكومة رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس تستعد لإعادة تعريف الصين من “منافس منهجي” إلى “تهديد” للمملكة المتحدة، حيث تعتبر المملكة المتحدة رقم 1 للولايات المتحدة في أوروبا، ويريد داونينغ ستريت توحيد أوروبا لمساعدة الولايات المتحدة في مواجهة الصين. لكن: هل تستطيع تراس فعل ذلك بنفسها، خاصةً أن بريطانيا تواجه أزمة اسكتلندا التي تقاتل من أجل استفتاء جديد على الاستقلال؟

لقد أصبحت المملكة المتحدة مهمشة أكثر فأكثر، وعلى  أوروبا ألا  تسلك نفس الاتجاه.