حلب عاصمة الموسيقا الأصيلة منذ القدم
فيصل خرتش
تعد مدينة حلب من أقدم المدن المأهولة، وعرف عن أهلها اهتمامهم بالموسيقا منذ القدم، وتعدَ عاصمة الموسيقا الأصيلة حتى يومنا هذا، إذ إنَ فيها تيارا قويا من الذواق والمحترفين يؤكد على الحفاظ على التراث، والموسيقي منه على وجه الخصوص.
ومن الدلالات على أنَ الموسيقا قد احتلت مساحة كبيرة من حياة أهلها، أن أهم كتاب في الغناء أهدي إلى أميرها سيف الدَولة الحمداني (“كتاب الأغاني”) ذلك المؤلف ذائع الصيت الذي كتبه أبو الفرج الأصفهاني إرضاء لميول الأمير الموسيقية، والفارابي الذي كان من جلسائه، أنجز كتابه الشهير “الموسيقى الكبير” فيها، وكم من كاتب أو شاعر، عربي أو أوروبي وافد، تحدَث عنها، وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان: إنَ الله خصَ حلب بالبركة، وفضلها على جميع البلدان.
وهذه سيدة أوروبية، هي الليدي ستانهوب، تتحدث عن أمسيات حلب الموسيقية، في القرن الثامن عشر، فتقول: في حلب تصدح الأغاني من خلف المشربيات، ويتناهى من خلف حائط تكتنفه الأسرار، صوت قيثارة، ولا تدري كيف تتلوَن بصوت المزامير والطبول.
ومما قاله المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون، عام 1915: قصدت بغداد عام 1908 بحثاَ عن ألوان الغناء فيها، فوجدت أهم لون هو ما نقله الموسيقيون من أهالي حلب، وقد دوَنت بعض نصوص هذا اللون الحلبي وألحانه.
وشهادة أخرى من ملحن مصريه و كامل الخلعي (1877 ـ 1938)، إذ قال في كتابه “الموسيقا الشرقية” واصفا طريقة غناء المصريين في عهده: أصلا على ما يعلم من تاريخ وضعها، أن رجلا من أهل حلب واسمه شاكر أفندي الحلبي وفد إلى القطر المصري في القرن السابع عشر الميلادي، وكان فن الألحان فيه مجهولا، فنقل إلى مصر جملة من تواشيح وقدود، كانت هي البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهل حلب عن الدولة العربية، فتلقاها عنه بعضهم وصارت عندهم ذخيرة نفيسة واشتد حرصهم عليها.
وقياسا على شاكر الحلبي لدينا الكثير ممن ارتحل معلما، أو ناقلا ثقافة حلب وموسيقاها في أقطار عديدة، نذكر منهم في القرن التاسع عشر أنطوان الشوا، عازف الكمان الذي ارتحل إلى مصر، وأقام فيها عارضا فنه، وفي أوائل القرن العشرين ارتحل نوري الملاح إلى عربستان (المحمرة)، وأقام في قصر أميرها خزعل اثني عشر عاما، ولحق به الشيخ علي الدرويش الباحث والمؤلف الموسيقي، ومعه عمر البطش، وفرقة موسيقية، أقاموا في القصر نفسه مدة عامين، وكان ذلك في عام 1912.
ومن المرتحلين المهمين المؤلف الموسيقي كميل شمبير، الذي سافر إلى القاهرة عام 1914، ويروى عنه أنَه كان يلحن مسرحيات سيد درويش ليعزفها الموسيقيون، كما لحن عدة مسرحيات، لم يبق منها إلا النذر اليسير، مثل “وحياة عينيَ ما أميل للغير”، و”نويت أسيبك خلاص نويت”.
ومما يذكر لحلب: أنها كانت مركز امتحان لإمكانات المطربين والمطربات الذين يقدمون من الدول المجاورة، فمن منهم ونال قبولا لدى جمهورها، كان نجاحه جواز سفر إلى الشهرة، ومن أخفق عليه هجر مهنة الغناء، ذكرت ذلك المطربة بديعة مصابني في مذكراتها، كما أورد مثل ذلك محمد عبد الوهاب في لقاء تلفزيوني، وممن خاض امتحانا في حلب من مطربي مصر: عبده الحامولي، سيد درويش، صالح عبد الحي، سلامة حجازي، كارم محمود، ومن لبنان: سعاد محمد، نورالهدى، وصرحت في لقاء تلفزيوني أنَها تتلمذت على الموسيقار بكري الكردي.
ومن الجدير بالذكر إنَ عمر البطش (1885 ـ 1950)، ملحن الموشحات الأشهر في مدينة حلب، كان له في داره ما يشبه صف الدراسة، إذ كان تلامذته كثرون وينقسمون إلى مجموعات، لكل منها وقت خاص بها، يحضرون فيه إليه فيستعيدهم ما حفظوه في الدرس السابق، إن كان موشحا أو قدا أو دورا، ثمَ يبدأ بإتمام ما تبقى منه، حتى ينهيه، وقد اجتمع لديه في مجموعة واحدة مشاهير المطربين والملحنين وراقصي السماح (صبري مدلل، عبد القادر حجار، بهجت حسان)، أما صبحي الحريري فاتبع طريقة أخرى، وكان ريسا لأكثر من حلقة ذكر في مدينة حلب.
والموشح شكل من أشكال التراث الغنائي الحلبي، فما زالت حلب تعُده أرقى أنواع المؤلفات الغنائية، وتحافظ على موروثها منه، ويحرص مطربوها ومنشدوها على حفظه وغنائه، والموشح من الناحية الموسيقية نص لحني على شعر أو زجل، يمتاز لحنه بجودة الصياغة وجزالة الجمل الموسيقية مع حسن ترابط بينها، ووحدة عضوية متينة، إضافة إلى انسجام الجمل اللحنية مع وحدات الإيقاع.
أما أقدم نصَ متوارث في مدينة حلب، وشائع غناؤه فيها، فهو:
أحن شوقا إلى ديــــارِ رأيت فيها جمال سلمــــــــى شربت منها لمى عقار من كفَ ساقي الشراب ألمى
وهذا الموشح لعبد القادر المراغي الذي عاش في القرن الخامس عشر ميلادي، ويغنيه المطربون والمنشدون حاليا في حلب.
والقصيدة هي لحن على شعر فصيح، ينشد أو يغنى ارتجالا، وتأخذ منحى السهولة في الإيقاعات، وعادة ما تنتقى من قصائد الغزل الرفيع، ذات ألفاظ رقيقة ومعان مؤثرة، وأشهر القصائد التي كررت بأصوات المنشدين والمطربين هي لعمر بن الفارض ومطلعها:
زدني بفرط الحب فيك تحيَرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
أما القدود، ومفردها “قدّ” فهو فن يطلق على لون من ألوان الغناء، وقالب للتأليف الغنائي الحلبي، وهناك ألحان بنصوص مختلفة في قالب “القد” ليس لها سابق، وأخرى وضعت على نصوص شعرية أو زجلية، مع مراعاة العروض والقافية وحرف الروي والتوافق اللفظي مع اللحن والإيقاع الموسيقي، وله أشكال يصاغ عليها:
ـ نصَ لحني من الموسيقا الآلية.
ـ نصَ شعري بالفصحى على زجل أو العكس.
ـ نصَ بالفصحى على نصَ مثله في قالب الموشح.
ومن الأمثلة:
يا إمام الرسل يا سندي أنت باب الله معتمـــدي ففي دنيا يا وآخرتــــي يا رسول الله خذ بيدي
وهو لحن من مقام البياتي، وقده بالزجل:
تحت هودجها وتعالجنــــا صار سحب سيوف يا ويل حالي
يا ويل ياويل ياويل حالي أخذوا حبي وراحوا شمالـــــــــي
وهكذا نرى أنَ اهتمام مدينة حلب بالإرث الموسيقي عمره مئات السنين، وأنها مدينة أصيلة عاشت للطرب في ليلها وفي نهارها تنهض للعمل.