ثقافةصحيفة البعث

المكان مخزون خصب يُزهر في العمل ويُثمر في فكر المتلقي

أمينة عباس

تعدّدت العناوين التي تناولها المشاركون في ندوة “السردية الروائية بين الواقعية والفضاء المكاني” التي أقيمت بمشاركة د. حسن حميد، د. مانيا سويد، ونذير جعفر ضمن الفعاليات الثقافية المرافقة لمعرض الكتاب السوري، لتؤكد جميعها على أن المكان يشكل عنصراً مهماً بأشكاله المختلفة في أي عمل أدبي.

ضرورة لا خلاف عليها

سويد بيّنت في مشاركتها، ومن خلال تجربتها الشخصية، أن الوعي واللاوعي يطوف دوماً بالأمكنة التي انحدرنا منها، وهي في الرواية لا تنحصر في القرية أو المدينة أو الشارع أو المنزل، بل تتجاوز ذلك إلى جماليات أكثر، مؤكدة أن بعض الروائيين يختارون أمكنتهم بحرص ووعي عميق مما يسهم في إنتاج نصّ بعناصر متماسكة ومتفاعلة مع المكان، وهي في الرواية إما أن تكون نتيجة تجربة حقيقية يعيشها المؤلف أو من هم حوله، أو أن يكون من وحي خياله، معتبرة -بعكس بعض الكتّاب- أن المكان ليس بالضرورة العمود الأساس في الرواية وإنما قد يكون دعامة لترتكز عليها عناصر السرد الأدبي، مثل الزمن والحدث والشخصيات، وهو في بعض الأعمال مسرح للأحداث والحيّز الذي تعيش فيه شخصيات الرواية، مشيرة إلى أن المكان قد يكون هو المسيطر والمهيمن على حركة الأشخاص واتجاه الأحداث في بعض الروايات مثل “شرق المتوسط” و”مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، وقد يكون المكان هو الإناء لأحداث وشخصيات مجتمع بعينه مثل “زقاق المدق” و”السكرية” لنجيب محفوظ، وقد يتراجع ليكون مجرد إطار على هامش النص، أو يكتفي المؤلف بذكر إشارات بسيطة عنه، أو يكون حضوره شبه معدوم والتركيز يكون على الحدث مثل رواية سويد “وجدان” التي تعكس رؤيتها تجاه كلّ الأماكن والأزمان والأشخاص.

ورأت سويد أن للمكان أحياناً ضرورة لا يختلف عليها اثنان في السرد الأدبي، حيث نجد أنفسنا نقرأ الخارطة الجغرافية والمكانية من خلال العمل الأدبي لسورية أو مصر أو العراق، فنتعرّف على أحيائها ومدنها وأزقتها، مشيرة إلى أنه ومع تطور فنّ القصة في الأدب العربي بقي المكان ركناً رئيسياً من النسيج القصصي والروائي، حيث تأكدت في أشكال السرد المعاصرة في الأدب العربي أهميةُ دور المكان من خلال اقترانه مع الحدث والتشاركية مع باقي العناصر في صياغة العمل القصصي أو الروائي. وختمت سويد كلامها بالتأكيد على أن الجغرافيا المتنوعة تحرّض على الإنجاب السليم، فمبدع الريف والبحر والهواء والجبل والأفق المفتوح اعتاد أن يعقد علاقة تأمل مع الطبيعة، فتخرج إبداعاته تتنفس، وفيها الكثير من العمق بطرق مبتكرة في الكتابة، وأن الذاكرة البصرية للمكان مخزون خصب يُزهر في العمل ويُثمر في فكر المتلقي، حيث المكان المفتوح على الآفاق يشكل جغرافيا دماغية تتشعب فيها الممرات والساحات والفضاءات، فتتدفق ينابيع من الخيال والأفكار.

المكان والزمان

وأشار جعفر إلى العلاقة بين المكان والزمان في العمل الروائي، فالزمان يتكثف ويتراصّ ويصبح شيئاً فنياً مرئياً، والمكان أيضاً يتكثف ويندمج في حركة الزمن والموضوع بوصفه حدثاً أو جملة أحداث التاريخ، لذلك في دراسة المكان في الرواية السورية لا بدّ من النظر إليه في سياق ارتباطه العضوي بالزمن الفني، وإلا نكون قد قمنا بعملية فصل متعسف لوجهي عملة واحدة، موضحاً أن المكان الفني في الرواية بأبعاده الفيزيائية والهندسية والجغرافيّة والتاريخية والنفسية والموضوعية والذهنية والجمالية هو غير المكان الواقعي حتى لو كان صورة عنه، مؤكداً أن الرواية السورية احتفتْ بالمكان بدءاً من عناوينها وانتهاءً بفضاءاتها الواقعية والمتخيّلة وإحالاتها الرمزية والأسطورية والدلالية، مشيراً إلى المكان بصفته عنواناً، سواء إن دلّ على اسم واقعي مشخص أم على معنى ذهني مجرد، مدنياً أو ريفياً، فهو يشير إلى الأهمية الجغرافية والتاريخية والرمزية والدلالية لهذا المكان وإلى ما يمثله في الوعي والذاكرة الجمعية، وإلى ارتباط الشخصيات والأحداث به من ناحية أخرى وأهميته لدى الكاتب، وكانتصار لهذا التصور عنونت بعض الروايات السورية بأسماء أماكن واقعية أو متخيلة مثل “وداعاً يا أفاميا” 1960 لشكيب الجابري و”دمشق الجميلة” لأحمد يوسف داوود و”موزاييك دمشق” لفواز حداد، منوهاً كذلك بأنه وكما تخترق العلاقات المكانية الزمانية الواقع الحياتي للناس وتشكل الفضاء الرحب للحلم والذاكرة فإنها تخترق البرنامج السردي في كلّ عمل روائي،  فلا أحداث ولا شخصيات خارج المكان الروائي حتى ولو كانت الشخصيات والأحداث متخيلة. واستشهد جعفر بعدة روايات على هذا الصعيد مثل “المهزومون” لهاني الراهب و”دار المتعة” لوليد إخلاصي. 

البكاء في حضرة المكان

وأوضح د. حميد، ككاتب فلسطيني، أنه ما كتب نصاً روائياً إلا وكانت عينه مشدودة للمكان، ليس لأن المكان عنصر أساسي من العناصر الحاملة لمعاني النص والمكونة له، وإنما لأن المكان هو الهواء الذي تتنفسه شخوص الرواية، فهو هويتها، ومنذ مئة عام وأهله لا يبكون الشهداء والضياع والتشريد فقط بل يبكون المكان وهم يحلمون بالعودة إليه لأنه سير الأجداد الذين زرعوا وصنعوا وتاجروا وكتبوا وقرأوا ورسموا وبنوا القرى والمدن. وبيّن حميد أن كتاب الرواية الفلسطينية هو كتاب المكان، فلسطين الفقيدة، والناس حين يفتقدون المكان يفتقدون الهوية لأن الهوية تضيء الروح ومستنبت الدروب نحو الأحلام، لهذا حين افتك المكان الفلسطيني من يد أهله اضطربت الهوية ولو لوقت قصير، لأن ما حلّ به كان عطباً أصاب الأرواح في مقتل إلى أن تجلّت الهوية حين قال الفلسطيني: المخيم بيتي الطارئ الذي سأفاخر به، ومنه سأشقّ الدروب نحو الجليل والنقب، فراحت الهوية تراكم صورها بالقاعدة الفدائية والمدرسة وبالكتب والفنون وبالوعي والانتماء والسلوك الحضاري والذاكرة الحافظة لكل تفصيل، موضحاً أن لا شيء ثمين في روايتي “صراخ في ليل طويل” و”السفينة” لجبرا إبراهيم جبرا سوى المكان الذي تدور حوله شخوص الرواية دورة الدراويش حول المعنى، ولا شيء ثمين في رواية “حارة النصارى” لنبيل خوري سوى المكان الجميل المدهش، وليس في رواية “العشاق” لرشاد أبو شاور سوى البكاء في حضرة المكان داخل مخيم في أريحا، وليس في رواية “بحيرة وراء الريح” ليحيى يخلف سوى الركوع قرب شط طبريا.