أوروبا.. الغابة التي تحترق
أحمد حسن
ربما كان للتتابع، غير المقصود طبعاً، بين مقولة جوزيف بوريل العنصرية عن الحديقة والغابة، و”فشة” خلق إيمانويل ماكرون عن معايير واشنطن المزدوجة، دور مهم في كشف المستور عن زيف “الحديقة” من جهة أولى، والحدود الفعلية للغابة من جهة ثانية.
“الحديقة”، التي تحدّث عنها الأسبوع الماضي منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، تحترق كما يتابع الجميع، ومن يحرقها هو “الغابة” طبعاً، كما قال الرجل، لكن ليست تلك التي قصدها ضمنياً – وإن أنكر لفظياً – بل إنها تحديداً تلك التي دفعت الرئيس الفرنسي ليستعمل، ومن على منبر الاتحاد الأوروبي ذاته، مصطلحاً، كان سابقاً “عالمثالثياً” بامتياز، في معرض انتقاده الولايات المتحدة في مقاربتها لتحديد أسعار الغاز، قائلاً: “إنها” معايير مزدوجة”!
وبالطبع، فإن لحرائق أوروبا أسباباً عدة بعضها بنيوي، وبعضها سياسي، وبعضها اجتماعي، لكن النار الأوكرانية تحديداً كانت هي السبب المباشر في ازدياد أوارها، وبتعبير آخر بإظهار حركة “الصفائح التكتونية” الجيوسياسية لأوروبا إلى العلن، بينما تكاد الأسباب البعيدة، وهي عديدة، تنحصر في اثنين: أولهما، بدء سكان “الغابة” – الذين قصدهم “بوريل” فعلياً – بالتساؤل الاستنكاري المنتج والدّال لا الاستفهامي البسيط فقط عمّا يفعله الأوروبيون، بجيوشهم وأسلحتهم وأساطيلهم، “بعيداً عن قارتهم على بعد آلاف الأميال؟! وثانيهما، تلك التبعية الفاقعة والفاضحة والذليلة للسيد القابع في البيت الأبيض حتى في شؤون تطول انعكاساتها وشراراتها سكان “الحديقة” إياها، أي ذوي العيون الزرق أنفسهم، فـ “السيد” الذي أشعل نار حرب الطاقة وأجبر أوروبا بأكملها على مقاطعة الغاز الروسي الذي قام عليه رخاؤها حسبما قال “بوريل” ذاته في السابق، يقوم، أي السيد الأمريكي، “ببيع غازه بثلاث إلى أربع مرات – في داخل “الحديقة” الأمريكية طبعاً لا الأوروبية – أرخص ممّا نبيعه”، كما قال ماكرون.
قبل ماكرون كان وزير الاقتصاد والمالية والصناعة والسيادة الرقمية الفرنسي، برونو لو مير، اعتبر أنه “من غير المقبول أن تبيع واشنطن غازها الطبيعي المسال بأربعة أضعاف ما تبيعه لصناعييها”. الرجل يرى، ويشاركه في هذه الرؤية رئيس وزارة الاقتصاد الألمانية، روبرت هابيك، أن واشنطن تحاول “فرض هيمنة اقتصادية من خلال إضعاف أوروبا بالاستفادة من الصراع في أوكرانيا”.
وخلف تلك “الهيمنة” لا يقبع طبعاً سوى المال.. المال، إذ يمكن للشركات الأمريكية، حسب خبراء ومختصين، أن تكسب “أكثر من 100 مليون دولار عن كل سفينة حاويات غاز طبيعي مسال متجهة إلى أوروبا”.
“الحديقة” تحترق فعلاً. بريطانيا مثلاً، وهي “ترمومتر” القارة، أحرقت عدة رؤساء للوزارة، آخرهم ليز تراس، بل إن النار تكاد تطول طبقة سياسية كاملة بـ”محافظيها” و”عمالها”. مجرّد طرح بعض البريطانيين عودة “جونسون” – المستحيلة- هي إفلاس كامل ودليل بيّن على حجم الحريق.
في بداية العشرية الثانية وصف المدير العام الأسبق لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس-كان، منطقة اليورو ومشكلاتها الخاصة، أي أوروبا، بأنها عوامة على وشك الغرق.
إنها تغرق الآن. انقيادها الأعمى خلف العم سام، السّام فعلياً كما دلّت تجارب الحلفاء والأعداء، يساهم في تسريع ذلك، وتلك حقيقة يعرفها الجميع لكنهم يصمتون عنها، وهماً ورهبة ومكابرة، كما يصمتون عن حقيقة أن أمثال “ماكرون” و”تراس” و”جونسون” وحتى “بوريل” ليسوا إلا نتاجاً طبيعياً لهذا “الغرق” المتسارع، وبالتالي لن ولا يمكن لهم أن يساهموا قيد شعرة في عملية الإنقاذ.
تلك مأساة شعوب أوروبا، لكنها مسؤوليتها أيضاً.