سلاح الطاقة رداً على العقوبات الغربية
سمر سامي السمارة
تنظرُ واشنطن إلى العقوبات الاقتصادية والمالية على أنها أفضل الخيارات لخوض الحروب بوسائل أخرى، ولعلّ إستراتيجية الولايات المتحدة لعرقلة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هي أحدث مثال على ذلك.
من الواضح، أن المركزية الإقليمية للنظام الاقتصادي العالمي واحدة من الأسباب الرئيسية التي مكّنت الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا حتى الآن من تسليح الاقتصاد لمعاقبة من تعتبرهم خصوماً لها. وبطبيعة الحال، هي الإستراتيجية ذاتها التي رسّخها الاستعمار الغربي بشكل أكبر في نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن الواقع يُظهر أن الجغرافية الاقتصادية لعبة صعبة، فالقوة الكامنة لمصدر معيّن من الطاقة يمكن أن تتغيّر جذرياً باختلاف السياقات، وهذا ما بدا واضحاً في الحرب الروسية الأوكرانية التي قدّمت مثالاً بليغاً على مثل هذا التغيير.
ففي الوقت الذي استخدمت به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وسائلهم المعتادة بفرض “عقوبات جهنمية” على روسيا، لم يدركوا أن موسكو ستتبع في النهاية تكتيكاتهم ونهجهم الخاص ضدهم، حيث لجأت موسكو -رداً على الدعم الغربي لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا- لاستخدام سلاح الطاقة الأمر الذي تسبّب، بطبيعة الحال، بزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي من الداخل، وتفكيك التضامن بين دول الاتحاد الداعم لأوكرانيا، وإجباره على مواجهة أخطر “أزمة نفقة معيشة” يمرّ بها منذ عقود.
إذا كان الهدف من “العقوبات الجهنمية” معاقبة روسيا، وإضعاف موقف بوتين السياسي، فإن ارتفاع أسعار الوقود في أوروبا قد خلق معضلة خطيرة للقارة بأكملها، وقد دفع هذا العديد من الدول الأوروبية للبحث عن مصادر بديلة للغاز، وخاصة الغاز الطبيعي المسال. ولكن بحسب تقارير وسائل الإعلام الغربية نفسها، حتى لو استبدلت أوروبا الغاز الروسي بالغاز المسال، فليس هناك ما يكفي من الغاز المسال لإبقاء أوروبا دافئة في الشتاء.
ووفقاً لـ”الشبكة الفيدرالية الألمانية”، فإن الخزانات الاحتياطية الألمانية ستفرغ من محتواها في أقل من ثلاثة أشهر، حتى لو كانت ممتلئة بنسبة مائة في المائة، في حال تمّ إيقاف إمدادات الغاز الروسي بشكل كامل. وهنا لابد من الإشارة، إلى أن قرار روسيا بإغلاق إمدادات الغاز عبر “نورد ستريم 1” أحدث هزة في القارة بأكملها من الداخل. وبحسب تقارير وسائل الإعلام الغربية، من المرجّح أن تؤدي أزمة الطاقة التي تواجه القارة بأكملها إلى إحياء العداوات القديمة، وازدياد تصدعات التحالف الأوروبي من الداخل.
بات واضحاً، أن بعض الدول بدأت بالفعل رسم مسارها الخاص، فقد أعلنت كلّ من المجر وبلغاريا إعادة التفاوض بشأن صفقات غاز مع روسيا، في حين عادت المملكة المتحدة إلى حليفتها التقليدية أي الولايات المتحدة، لإيجاد المزيد من مصادر إمدادات الغاز، ومع ذلك تبقى أيضاً واحدة من أكثر البلدان تضرراً من أزمة الغاز. وبحسب صندوق النقد الدولي -ونتيجة لأزمة الغاز- من المرجح أن تفقد الأسرة المتوسطة في المملكة المتحدة 8.3 في المئة من إجمالي إنفاقها في عام 2022. بينما من المرجّح أن تخسر ألمانيا وإسبانيا نحو 4 في المئة، وأن تواجه الأسر التشيكية تأثيرات أعلى من المملكة المتحدة في أوروبا كلها.
تعتقد دول الاتحاد الأوروبي بإمكانية إبطال تأثير هذه الأزمة من خلال تأمين إمدادات إضافية من الولايات المتحدة، ولكن، بحسب تقارير وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، فإن الولايات المتحدة نفسها تتجه نحو أزمة غاز، فقد ذكر تقرير حديث لصحيفة “وول ستريت جورنال” أن مخزونات الغاز في الولايات المتحدة هي بالفعل أقل بنسبة 11.3 في المائة من متوسط الخمس سنوات الماضية.
وحيث إنه من المستبعد، بالوقت الحالي، أن يكون هناك انتقال تلقائي لأوروبا إلى مصادر بديلة لإمدادات الغاز، لذلك قد تتحوّل أزمة الغاز في أوروبا الآن إلى أزمة اقتصادية كبرى، فقد أجبر ارتفاع أسعار الغاز مصانع الأسمدة على الإغلاق، ما يهدّد بحدوث أزمة غذائية في جميع أنحاء القارة.
كما تتخذ الشركات المصنّعة الأخرى في أوروبا، تدابير لتقليل تأثير أزمة الغاز. وبحسب التقارير، فقد ذكرت شركة “فولكس فاغن” أنها تخزن المكونات التي تتضمن صناعة الزجاج، حيث إن صناعة الزجاج تحتاج إلى صهر الرمال ورماد الصودا والحجر الجيري، وتتطلب كميات كبيرة من الغاز الطبيعي. ونظراً لعدم وجود ما يكفي من الغاز في أوروبا، يتوقع هؤلاء المصنّعون انخفاضاً كبيراً في طاقتهم الإنتاجية. كما تعني أزمة “تكلفة المعيشة” المتزايدة أنه سيكون هناك عدد أقل من مشتري فولكس فاغن والسيارات الأخرى في عام 2022 أو حتى بعد ذلك.
إذن ما هو الخيار الأنسب لأوروبا؟ في الحقيقة، أمضت الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية ساعات في الدفاع عن أوروبا، لدفعها لمواجهة التحدي الروسي. لكن واقع الحال يؤكد أن ما روّجت له وسائل الإعلام هذه ليس سوى وسيلة لإقناع أوروبا بالبقاء في محور الولايات المتحدة. لذا يبدو أن البديل الأفضل لأوروبا هو مراجعة تحالفها المكلف للغاية مع واشنطن. فمن ناحية، أُجبرت العديد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، على إنفاق المزيد على الدفاع، ومن ناحية أخرى، تواجه الآن أزمة يمكن أن تقوّض الوحدة الأوروبية والاستقرار السياسي.
يرى المراقبون عن كثب أن تطوير إطار جيوسياسي لا يعتبر روسيا دولة معادية قد يكون نقطة انطلاق مفيدة، وأن إظهار بعض المراعاة تجاه المصالح الأمنية المشروعة لروسيا تجاه توسّع الناتو يمكن أن يساعد أوروبا في التغلّب بسرعة على الأزمة التي خلقتها الولايات المتحدة دون أن تساعد في التغلّب عليها.