في رحاب “شعر المناسبة”
نجوى صليبه
يعرِّف مصطلح “أدب المناسبات” نفسه بنفسه، وإنّ كنّا نقول فيما مضى “شعر المناسبات”، فلأنّه كان محصوراً بالشّعر فقط، أمّا اليوم وفي زمن المسابقات والجوائز -التي تقام تكريماً لروائي أو قاصّ ما وتحمل اسمه، أو تلك التي تقام لأسبابها الخاصّة- صار لدينا “قصّة المناسبة” و”رواية المناسبة” و”دراسة أو بحث المناسبة” أيضاً.
ولأنّ الحديث عن الفنون الأدبية غير الشّعرية التي أُلّفت بمناسبة ما يطول كثيراً، سنتوقّف عند الشّعر فقط، ونبدأ بالمديح الذي يعرّف بأنّه الثّناء على الصّفات المادية والمعنوية التي يتمتّع بها شخص ما، وهو الذي يعدّ من أبرز الأغراض الشّعرية في العصر الجاهلي، حيث القصائد التي نُظمت في مديح شيوخ القبائل والقادة والملوك، واهتمّت بنقل الوقائع التّاريخية والعلاقات مع الجيران، ولعلّ أبرز سمات هذا الشّعر آنذاك هو المبالغة في وصف الممدوح طمعاً برضاه وجوده، ويرد في بعض المراجع أنّ النّابغة الذّبياني أوّل من حرف الشّعر إلى هذا الطّريق بسبب تنقلّه بين قصور المناذرة والغساسنة ومدح ملوكهم، طبعاً لا يمكن أن نتجاهل أبداً مديحاً اتّسم بالصّدق والابتعاد عن التّزلّف والتّملّق والنّفاق والتّكسّب، ونذكر على سبيل المثال ما قاله طرفة بن العبد في مدح قتادة بن سلمة الحنفي:
أبلغ قَتادةَ غير سائله منه الثّواب وعاجل الشكمِ
أنّي حمدتك للعشيرة إذ جاءت إليك مرقَّة العظم
ألقوا إليك بكلّ أرملةٍ شعثاء تحمل منقع البُرمِ
فَفتحت بابك للمكارم حين تواصت الأبوابُ بالأَزمِ
وأهنت إذ قَدموا التلاد لهم وكذاك يفعل مبتني النعمِ
وفي صدر الإسلام، أخذ المديح طريقاً آخر، إذ كان هدف الشّعراء من المدح هو نشر رسالة الإسلام، فجاءت المدائح النّبوية بعيدة عن ذكر الصّفات والخصال الحميدة التي يتسّم بها الرّسول الكريم ومركّزة على ما جاء به من هداية للنّاس، نستذكر قصيدة “البردة” لكعب بن زهير ونقتبس منها:
إنَ الرّسول لسيفٌ يستضاءُ به مُهنّدٌ من سيوف اللَهِ مسلولُ
في عصبةٍ من قريشٍ قال قائلهم ببطن مكة لمّا أَسلموا زولوا
وزالوا فما زال أَنكاسٌ ولا كشفٌ عند اللقاء ولا ميلٌ معازيلُ
ولم يختلف الأمر كثيراً على شعراء التّكسّب أو شعراء المديح والمناسبات في العصر الأموي عنه في الجاهلية، فمدحوا الحكّام والولاة والأمراء بهدف المنفعة المادية والمكاسب المعنوية غير مكترثين لصدق أو إنصاف، مستغلين الانقسامات والصّراعات وتشجيع بعض الحكّام للشّعراء لإلقاء القصائد المدحيّة فيهم، وفي الوقت ذاته متجنّبين بطش بعضهم، ونذكر هنا الشّاعر غياث بن غوث التّغلبي المعروف بالـ”أخطل” وقصيدته التي مدح فيها الخليفة يزيد بن معاوية، واصفاً إيّاه بالشّجاعة والإقدام، وواصفاً والده بالوفاء والمجد:
خليليَّ ليس الرأي أن تذراني بدوّيّةٍ يعوي بها الصديانِ
وأرّقَني من بعد ما نمت نومةً وعضبٌ جلت عنهُ القُيونُ بطاني
تصاخب ضيفي قَفرةٍ يعرفانها غرابٍ وذئبٍ دائم العسلانِ
ومثلهم، ذهب شعراء العصر العبّاسي إلى المديح للأسباب ذاتها، بل وكان بينهم منافسة شديدة، وقد نال المديح اهتماماً كبيراً من جميع الأطراف، طمعاً في زيادة هيبة السّلطة ووقارها في عيون النّاس فيتحقّق الخوف والاستسلام، ونذكر عندما سُئل البحتريّ عن جودة مديحه قال: “المديح للرّجاء والرّثاء للوفاء وبينهما بُعد”، ونستذكر دائماً مديح المتبني لسيف الدّولة الحمداني:
قَد زرتهُ وسيوفُ الهند مغمدة وقَد نظرتُ إليه والسُيوفُ دمُ
فكان أحسنَ خلق اللَهِ كُلهم وكانَ أحسن ما في الأحسن الشيمُ
فوتُ العدو الذي يممته ظفرٌ في طيّه أسفٌ في طيّه نعمُ
وفي العصر الحديث، نظم العديد من الشّعراء القصائد الخاصّة ببعض المناسبات الدّينية والوطنية والسّياسية، واشتهرت هذه القصائد وصارت تُلقى وتُذكر في الذّكرى السّنوية لحدث ما، نذكر قصيدة أحمد شوقي (1868- 1932) التي كتبها بمناسبة مشاركة مصر في منافسات دورة الألعاب الأولمبية التى أقيمت في أمستردام عام 1928 وحصول الّلاعب السّيد نصير على الميدالية الذهبية، ليكون أوّل مصري وأفريقي وعربي يفوز بميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية، يقول:
شرفاً نُصيرُ ارفَع جبينك عالياً وتلقَّ من أوطانك الإكليلا
يهنيك ما أُعطيت من إكرامها ومُنحت من عطف ابن إسماعيل
اليوم يومُ السّابقينَ فكن فتىً لم يبغِ من قَصب الرّهان بديلا
وإذا جريت مع السّوابق فاقتحم غُرَراً تسيلُ إلى المدى وحُجولا
ولن ننسى ها هنا، قصيدة “الممثلون” لنزار قبّاني (1923- 1998م) التي قالها بعد نكسة حزيران، ومنها نقتبس:
حرب حزيران انتهت فكلّ حربٍ بعدها، ونحن طيّبونْ
أخبارنا جيّدةٌ وحالنا، والحمدُ لله، على أحسن ما يكونْ
جمر النّراجيل على أحسن ما يكونْ
وطاولات الزّهر ما زالت على أحسن ما يكونْ
والقمر المزروع في سمائنا مدوَّر الوجه على أحسن ما يكونْ
وصوت فيروز من الفردوس يأتي: نحن راجعونْ.
أحداث سياسية كثيرة لم يقف أمامها شعراء الكلمة الصّادقة مكتوفي الأيدي بل حاربوا بقصائدهم وقالوا كلمتهم مهما كلّفهم الأمر، ولعلّ هذه كانت السّمة الأساس لشعر المناسبة في فترة زمنية محدّدة، ونذكر على سبيل المثال قصيدة “لا تصالح” التي كتبها الشّاعر أمل دنقل (1940- 1983م)، اعتراضاً على معاهدة السّلام مع كيان العدوّ الصّهيوني:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
وبعيداً عن ظروف كتابة شعر المناسبة وأسبابه وأهدافه، وبعيداً أيضاً عن كلّ ما قيل وقد يقال من ذمّه أو مدحه، لا يمكن نكران الغنى الذي وهبه لتاريخ الشّعر العربي والذي إن أردنا الخوض فيه نحتاج لدراسات مطوّلة لا تنتهي، وصولاً إلى ما يُكتب اليوم أيضاً للأسباب والأهداف ذاتها وإن تغيّرت الأنماط والأساليب والأشكال الشّعرية.