الجُبن المجّاني لا تجده إلا في مصيدة فئران
تقرير إخباري:
ربّما يكون هذا هو التعبير الأقرب إلى الخطة التي تبحث واشنطن عنها للتعامل مع القارة الأوروبية بعد أن يتم تدمير اقتصادها بالكامل في المواجهة الدائرة حالياً بين موسكو وبروكسل عبر أوكرانيا، بينما تقف الإدارة الأمريكية موقف المتفرّج والمحرّض في آن معاً على حرب تدور رحاها بعيداً عنها في القارة الأوروبية التي ينبغي أن تُفرض عليها مجدّداً خطة مارشال جديدة لإعادة إعمارها، بحيث تتحوّل الدول الأوروبية مجتمعة إلى داعم للاقتصاد الأمريكي عبر توجيه الاقتصاد الأوروبي الخارج من الحرب حديثاً بأكمله نحو الولايات المتحدة الأمريكية. فالسياسة لابدّ لها أن ترتبط بالاقتصاد بخط مستقيم، ومن هنا فإن أحد أهم شروط خطة مارشال الجديدة، منع روسيا وقوى اليسار الأخرى من دخول حكومات البلدان المتلقية للمساعدات الأمريكية بعد الحرب، الأمر الذي سيكون له تأثير سلبي مباشر فيما بعد باقتصاد روسيا وحلفائها.
فقد صرّح المستشار الألماني أولاف شولتس في أكثر من مناسبة مؤخراً بأن الغرب يسعى إلى مساعدة أوكرانيا بـ”خطة مارشال للقرن الحادي والعشرين”، فهل يتم تعميم هذه الخطة على القارة الأوروبية بمجملها؟.
خطة “مارشال” الأصلية التي خرجت إلى العلن يوم 5 حزيران 1947، عندما ألقى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال كلمة في جامعة هارفارد، أوجز فيها برنامجاً للمساعدة في إعادة بناء أوروبا التي مزقتها الحرب، كانت بمنزلة البداية السياسية للحرب الباردة، وذلك لأن أي حرب حتى وإن كانت باردة، يجب أن يتم تغذيتها اقتصادياً، وبالفعل أصبحت “خطة ” مارشال الأداة الاقتصادية التي أطلقت العنان للحرب الباردة.
وبعد أن تضع الحرب أوزارها تظهر الأضرار الاقتصادية والمادية والديموغرافية الفادحة في جميع البلدان المتأثرة بها، حيث ستعاني جميعها من أوضاع اقتصادية شديدة الصعوبة، بينما تنعم دولة واحدة فقط وهي الولايات المتحدة بسهولة نسبية وأحياناً بحماسة ونشاط وفوائد.
فالاقتصادات الأوروبية التي فُرض عليها من خلف المحيط أن تنفق المليارات في دعم النظام الأوكراني، بالإضافة إلى اشتراكها الإجباري في العقوبات الكارثية المفروضة على روسيا من جانب واحد، الأمر الذي أدّى إلى أضرار حادة فيها ستظهر آثارها المدمّرة تباعاً، ستعاني ركوداً حاداً وانخفاضاً في الإنتاج وارتفاعاً في معدّل الدين العام، الأمر الذي سيجعلها عرضة للابتزاز الأمريكي، وقد بدأت مشاهد هذا الابتزاز بالظهور فعلاً من خلال بيع واشنطن الغاز الأمريكي المسال إلى أوروبا بأربعة أضعاف ثمنه في السوق الداخلية الأمريكية، فضلاً عن الخسائر الديموغرافية التي ستنجلي الحرب في أوكرانيا عنها إذا طال أمدها.
هنا سيأتي دور الاقتصاد الأمريكي الذي سيستحوذ على حوالي 60% من الإنتاج الصناعي وأكثر من 30٪ من صادرات دول العالم الرأسمالي، وكذلك ما يقرب من 70٪ من احتياطي الذهب في العالم، وبالتالي ستتحقق الفرصة مجدّداً بالنسبة للولايات المتحدة لتقرير كيفية ترتيب الوضع اقتصادياً في أوروبا ما بعد الحرب.
فالنظام الأمريكي يحسب الأمور عادة بطريقة عسكرية، أي يجب توظيف نتائج الحرب الدائرة حالياً في خدمة الاقتصاد الأمريكي، وستقوم واشنطن بمنح أوروبا مبلغاً هائلاً يتم توزيعه على عدد من الدول دون الأخرى، الأمر الذي سيمنح واشنطن فرصة التحكم بالاقتصادات الأوروبية مرة أخرى.
وحسب قاعدة “الإقراض والتأجير”، التي تنص على الدفع مقابل المساعدات المقدمة ستجري إعادة المعدات والأسلحة المقدمة إلى أوروبا إلى الولايات المتحدة، وبالتالي ستصبح دول أوروبا سوقاً مربحة، ونوعاً من المستعمرات الأمريكية، حيث ستكون المساعدات الأمريكية لهذه الدول عبارة عن وقود ومنتجات ومعدات زراعية، ما يعني أن عائداتها مرجعها إلى أمريكا، الأمر الذي يوفر قوة دفع قوية لتنمية الاقتصاد الأمريكي.
ومن هنا يتبيّن أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت من خلال تحريض الدول الأوروبية على قطع علاقاتها الاقتصادية مع موسكو، تحويل هذه الدول بمجملها إلى أنهر اقتصادية همّها فقط تغذية المحيط الاقتصادي الأمريكي.
طلال ياسر الزعبي