دراساتصحيفة البعث

استقالة تراس.. هل تنقذ المملكة؟

عناية ناصر

أصبحت الفوضى السياسية في المملكة المتحدة أمراً شائعاً منذ اتفاق “البريكست” في عام 2016، وكان آخرها تقديم ليز تراس، رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة استقالتها بعد 45 يوماً فقط من توليها المنصب، وتعتبر هذه الفترة من أقصر الفترات الرئاسية التي تشهدها الحكومة البريطانية لأي رئيس وزراء بريطاني، إذ لم يحدث هذا الأمر من قبل في السياسة البريطانية الحديثة منذ قرن.

على ما يبدو أن حزب المحافظين أدرك أن رئيسة الوزراء المستقيلة، التي تعهّدت بأن تكون “المرأة الحديدية” الجديدة، غير قادرة على تحمّل أعباء المهمة الشاقة المتمثلة في إنعاش الاقتصاد البريطاني. لكن السؤال هو: هل يمكن لاستقالة تراس أن تنعش ثقة السوق؟ إذ أنه لا يمكن إلقاء اللوم على المشكلات الاقتصادية الحالية في المملكة المتحدة على عدم شعبية خطة تراس لتخفيض الضرائب، وذلك لأن التخفيضات الضريبية لا تخلو من مزايا في تحفيز النمو الاقتصادي، لكن القلق الحقيقي هو هل لا يزال السوق مهتماً بما يشكل سياسة نمو اقتصادي فعالة؟.

يرى الخبراء من مختلف الأطياف السياسية، أولاً، حتى لو تمّ اقتراح استراتيجية تنمية اقتصادية فعالة الآن، فسوف يستغرق تنفيذها بعض الوقت، وليس من الواضح هل ما زال بإمكان المملكة المتحدة الانتظار أكثر من ذلك؟ ثانياً، ما الذي يجعل اقتصاد المملكة المتحدة في حالة تباطؤ وتراجع بالضبط؟ بما أن الحكومة لم تقم بتحليل شامل لنوع البيئة السياسية والاجتماعية اللازمة للنمو الاجتماعي والاقتصادي.

على ما يبدو أن الحكومة البريطانية تفكر الآن في المشكلة “بجدية”، إذ منذ وقت ليس ببعيد، توقع المجتمع الاقتصادي العالمي أن المملكة المتحدة حالياً “على حافة الركود”، وأن اقتصاد المملكة المتحدة قد دخل في “ركود تقني”. وعندما يفقد السوق والناس صبرهم ويصبح الركود الاقتصادي هو “التوقع العام” للمجتمع البريطاني، فإن أي سياسة تُتبع لن تكون ذات جدوى، فقد قوّضت الحوكمة الاجتماعية غير الفعالة أسس الاقتصاد البريطاني.

لقد كانت عبارة “حكومة صغيرة لمجتمع كبير” ذات يوم هي التسمية السياسية الفخرية للثقافة السياسية البريطانية والأمريكية، كما تمّ تصوير المناقشات البرلمانية البريطانية على أنها معيار الحياة السياسية الحديثة. ومع ذلك، لم تتمّ معالجة القضايا الاجتماعية والمعيشية بعد “البريكست” بشكل فعال، كما أنه لم يتمّ الاستجابة للمشكلات الداخلية والخارجية الصعبة، فأقصى ما يستطيع سياسيو المملكة المتحدة هو القيام بجولات مكوكية من خلال حضور الاجتماعات لمناقشة المقترحات المختلفة، وتقديم العروض السياسية، وهو أمر معتاد في الحياة السياسية البريطانية في الوقت الحاضر.

يحتاجُ أي رأس مال أن يكون لديه بيئة استثمارية دائمة ومستقرة، ونظام سياسي صحي وواعد، وعقلية اجتماعية متفائلة وإيجابية، وهذه العناصر المهمّة للغاية لبيئة الاستثمار ضئيلة في المملكة المتحدة اليوم، حيث أدّت إيديولوجية الاقتصاد البريطاني إلى استنفاد العناصر الأساسية للتطور البريطاني، إذ يعتمد الاقتصاد البريطاني بشكل أساسي على التجارة والتجارة الحرة، وهو سرّ ازدهارها المستمر في التاريخ الحديث. ومع ذلك، فقد شهد المجتمع الدولي انزلاق السياسة الاقتصادية للحكومة البريطانية إلى هاوية أيديولوجية في السنوات الأخيرة.

لقد اتخذت الحكومة البريطانية في الصراع بين روسيا وأوكرانيا إجراءات مبالغ فيها وشديدة للتعامل مع الأصول الروسية في المملكة المتحدة على أساس العقوبات المفروضة على روسيا، وهي تعادل دفن القواعد المقدسة والمبادئ المفتوحة للسوق البريطاني بأيديها. كما قامت المملكة المتحدة مراراً وتكراراً باستخدام مفهوم “الأمن القومي” كسلاح في علاقاتها مع الصين، وخلق حواجز مصطنعة في مجالات تكنولوجيا “الجيل الخامس”، والاستثمار التجاري والتعاون العلمي والتكنولوجي، فكيف يمكن لدولة تفتقر إلى المصداقية التجارية الأساسية واستمرارية السياسات الاقتصادية أن تبني بيئة أعمال دولية تتكيّف مع التنمية الاقتصادية للبلاد؟.

إذا كانت المملكة المتحدة ترغب في كسب زخم دائم للنمو الاقتصادي في المستقبل، فيجب عليها إعادة بناء وعيها الاستراتيجي لعالم المستقبل، فالعالم اليوم يعيش حالة من الاضطرابات والتغيّرات العنيفة، والسمات الأساسية لهذا التغيير ليست فقط نقل المركز الاقتصادي العالمي، ولكن أيضاً التطوير الذاتي، وتغيير المصير الثقافي لجميع دول العالم، إذ لا يمكن لتاريخ العالم أن يسير دائماً بشكل ميكانيكي في الاتجاه الذي حدّدته بعض الدول الغربية، فالحضارة الإنسانية الحديثة بحاجة إلى مفاهيم جديدة.