دراساتصحيفة البعث

قراءة في كتاب السياسة السورية الخارجية

أمينة عباس

لم تكن الأمسية التي اختتمت بها فعاليات معرض الكتاب السوري مؤخراً، وتحدث فيها سفيرنا الجديد لدى روسيا، د. بشار الجعفري، عن السياسة السورية الخارجية، وانتهت بتوقيع كتابه “السياسة السورية الخارجية”، إلا فرصة للتأكيد على الدور الحاسم الذي لعبته سورية صاحبة الماضي العريق في تاريخ العرب الحديث والمعاصر كبلد يزخر بتراث ثقافي عربي شامخ، ليكون الكتاب كما جاء في العبارة التوضيحية لمضمونه “إعادة زيارة التاريخ السياسي السوري لقراءته بعينٍ جديدة”.

وفي تصريحه للصحفيين، قال الجعفري: “إن المغزى من حفل توقيع هذا الكتاب هو تعميم الوعي لدى الرأي العام حول المفاهيم السياسية المغلوطة، وتصحيح المصطلحات التي يتمّ فرضها على وسائل الإعلام، وتردادها بشكل أعمى في أغلب الأحيان”.

لا تعاني من أي عقدة

وبيَّن الجعفري أن الحديث عن السياسة السورية الخارجية حديث ممتع رغم الفكرة المسبقة لدى معظم الناس بأن السياسة عمل مضجر ويصعب فهمه، مؤكداً في الوقت ذاته أن السياسة السورية الخارجية تفتح الآفاق أمام معارف تتجاوز الإطار السوري بكثير، مشيراً إلى أن الأهمية التي تحتلها سورية في قلب المشرق العربي والإقليمي والمكانة الجيولوتيكية التي تتصدرها في شؤون هذا المشرق، بالإضافة إلى الدور الشمولي لدبلوماسيتها النشطة ذات الاتجاهات المتعددة على الصعيد الدولي، على الرغم من ضيق مساحتها الجغرافية، ومحدودية اقتصادها وتواضع ثقلها الديمغرافي، وكلّ هذا يسوغ الجهود المبذولة من أجل فهم أفضل لمنظور هذه البلاد السياسي من خلال تحليل مفصّل للدوافع التي تحدّد المبادئ المرجعية الموجهة لسياستها الخارجية في العصر الحديث، مؤكداً أن أهم ميزة في السياسة السورية الخارجية هي أنها لا تعاني من أي عقدة نقص تجاه أي دولة أخرى مهما بلغ وزنها وثقلها الاقتصادي وحجمها الديمغرافي وسطوتها العسكرية، وكذلك في القدرة الهائلة على الصمود في وجه التحديات والضغوط ومواجهة الصعوبات بصبر كبير.

عدم المهادنة

وأوضح الجعفري أن السياسية السورية الخارجية تقوم اليوم على حرمة القانون الدولي، وقدسية المبادئ، ومصونية المرجعيات، وعلى التصدي للاستعمار والعدوان والاحتلال حيثما كانوا، مع إشارته إلى أن السمة البارزة في السياسة الخارجية السورية تكمن في عدم المهادنة مع المظاهر السلبية في العلاقات الدولية، وهي سمة كلفتها الكثير، ولكنها من ثوابت العمل الوطني والقومي والدولي دبلوماسياً وسياسياً.

فترة بارزة في تاريخ سورية

وحول موضوع الكتاب أشار الجعفري إلى أنه يشرح بلغة مفهومة وبسيطة الهوية الحقيقية للسياسة السورية الخارجية، بحيث تتضح دوافع هذه السياسة وانعكاساتها على الأرض، ما يمكّن من الوصول إلى مقاربات الشارع، سواء كان مثقفاً نخبوياً أو عادياً، وذلك لكي يجيب عن التساؤلات التي تقول بأن السياسة السورية غامضة وغير مفهومة، مشيراً إلى أن الكتاب يتناول فترة بارزة في تاريخ سورية الحديث تداعت فيها الأحداث بشكل مكلف للغاية في منطقتنا العربية وفي العالم، وكان لدمشق فيها الكلمة الفصل في تحديد العديد من السياسات والملفات والأجندات، وهي الفترة الممتدة من العام 1946 أي بداية الاستقلال السوري الثاني، ولغاية العام 1982 وهو العام الذي شهد غزواً إسرائيلياً مدعوماً مباشرة من الغرب لبيروت عاصمة لبنان، وتداعي سورية لصد هذا الغزو بمفردها.

وبيّن الجعفري أن البدء بالعام 1946 كان لأنه شهد جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية مع عدم الارتباط بأي معاهدة تبعية، وأي اتفاق ثنائي مقيد للسيادة مع قوة الاحتلال الفرنسي، كما أن العام 1946 مهمّ سياسياً لأنه شهد تتويجاً للاستقلال السوري من خلال تأسيس الجيش العربي السوري الذي دخل أول صدام حربي واسع مع الداعشية الصهيونية في فلسطين بعد ذلك بعامين فقط، أي في العام 1948، حيث يشير الخط البياني للسياسة الخارجية السورية خلال تلك الفترة إلى انتقال سورية الحديثة من مرحلة كونها ساحة للصراع والتنافس إقليمياً ودولياً إلى مرحلة كونها لاعباً أساسياً فوق رقعة الشطرنج.

كما أوضح الجعفري أن سورية شهدت خلال تلك السنوات أحداثاً مهمّة للغاية بسلسلة الانقلابات العسكرية بعد الاستقلال مباشرة، ثم التصدي لحلف بغداد ووصول التوتر مع تركيا إلى ذروته، الأمر الذي أوصل البلاد إلى خيار الوحدة الاندماجية مع مصر الناصرية، مروراً بثورة الثامن من آذار 1963 ووصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة الحكم، ثم الحركة التصحيحية في العام 1970 بقيادة القائد المؤسّس حافظ الأسد وحرب تشرين التحريرية في العام 1973 وصولاً إلى الحرب في لبنان والغزو الإسرائيلي للبنان، وما ترافق ذلك من الحرب العراقية الإيرانية، منوهاً بأن استقراء ورصد معالم السياسة الخارجية السورية يظهر استمراراً وتكاملاً في النهج الاستراتيجي العام، وهذا ما يفسّر برأيه المرونة التي تحيّر بعض العواصم والكثير من السياسيين والدبلوماسيين المهتمين بالشأن السوري.

مفتاح رئيسي

وأكد الجعفري أن تداعيات المشروع التخريبي الذي استهدف سورية منذ بداية ما اصطلح على تسميته “الأزمة السورية” قد أثبتت أن سورية مفتاح رئيسي يتحكم بمصير المخططات الغربية في المشرق العربي والإقليمي وبطبيعة الصراع مع “إسرائيل”، لذلك يلاحظ المتابع أن شراسة تلك المخططات الغربية تجاه سورية لا سابق لها ولا مثيل في أي مخططات أخرى رسمت ضد حكومات دول أخرى تناهض سياسات الغرب وتناصبها العداء، وكأنّ المسألة هي تصفية حسابات قديمة جديدة مع دمشق، وهذا المنظور يؤكد، كما قال، أن دمشق عصيّة على مشاريع الغرب و”إسرائيل”، وأن تحصين البلاد من مخاطر تلك المشاريع يشكل أولوية الأولويات في السياسة الخارجية السورية، الأمر الذي يجعل كلفة النزعة الاستقلالية في السياسة السورية مرتفعة جداً، ولاسيما أن العواصم الغربية قد استنبطت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة ومنذ تفكيك الاتحاد السوفييتي، وانهيار الكتلة الشرقية آليات ضغط اقتصادية ومالية مؤلمة لم تكن تلجأ إلى استخدامها في السابق من خلال  فرض الإجراءات القسرية الاقتصادية الأحادية الجانب -العقوبات الاقتصادية والمالية- إلى جانب محاولات العزل السياسي وفبركة القلاقل والاستثمار الواسع في استخدام سلاح الإرهاب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتوظيف المؤسّسات والمنظمات والآليات الدولية للتشهير بالدولة السورية بهدف النيل من الدول الرافضة لمنطق الهيمنة الغربية على مقدرات العالم، ومن بين هذه الدول سورية بطبيعة الحال، مبيناً أن فهم السياسة الخارجية لسورية في المرحلة من 1946 ولغاية 1982 يؤسّس لاستيعاب الكثير من المعطيات المتصلة بطبيعة السياسة الخارجية السورية في المرحلة التي تلتها وصولاً إلى أيامنا هذه، حيث ازدادت التحديات كثيراً، وتوسّعت الجبهات والمخاطر، وتداخلت الملفات، وتغيّرت المواقف في بعض العواصم بشكل انقلابي مذهل.

يُذكر أن الكتاب هو باكورة دار بستان هشام، وقد حضرت الأمسية والتوقيع فعاليات رسمية ودبلوماسية وثقافية، وحشد من المهتمّين.