الافتتاحية

عن الانتخابات المحلية.. مرة أخرى!!

بسام هاشم

قبل قرابة ألفين وثلاثمائة عام، صورت المنحوتات الجدارية المرأة التدمرية جالسة تحيط بأطفالها وتمسك بيدها مفتاح بيتها.. كان الرجال غائبين، يسيرون القوافل التجارية أو في صفوف المقاومة، وكانت تدمر ترزح تحت نير الاحتلال الروماني الذي أحكم قبضته على المدينة.. كانت التدمريات “السيدات” في بيوتهن، يعلّمن ويربّين أطفالهن، ويمارسن، بعيداً عن الشارع حيث الفضاء الملوث بالقهر والاحتلال، مقاومة سرية من نوع آخر، تتحدى بها هيمنة الثقافة الرومانية.. في الحرب الهمجية التي استهدفت شعبنا خلال السنوات الماضية، كانت السوريات أسطورة في الصمود والتضحية: حمين البيت والوطن، قدمن الشهداء، ترمّلن وثكلْن، وأعددْن وجبات الطعام للمقاتلين على خطوط التماس، وتوزعن في مواقع العمل، وسهرن على تربية وتدريس الأولاد، وتعليمهم حب الوطن.. إن ثقافة تمنح المرأة كل هذه المكانة، وتكّن لها كل هذا التقدير والاحترام، ترتضي رغم ذلك أن تصادر لها دورها وحقوقها، وأن تضيق على حضورها في المجال العام إلى أقصى درجة، بل وأن تحرمها من حقها في تمثيل عادل و”مستحق” في الاستحقاقات الدستورية، وهو ما جرى، للأسف، في الانتخابات المحلية الأخيرة، حيث سجل حضور المرأة على قوائم الفوز ما دون الـ 9%، في مجتمع

يدخل بشكل ما مرحلة من “التأنيث” (أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا!!)، فقد استشهد الكثير من شبانه في المواجهة مع العصابات الإرهابية المسلحة، وهاجر كثيرون آخرون مع التدمير والحصار والعقوبات،

وبات ذكوره مجندين لفترات طويلة في المعركة.. مجتمع كان يفترض أنه في طريقه لنوع من “الأنسنة” المرهفة والأناقة المتعالية طالما أن نساءه يشغلن مساحات متزايدة من الحيز العام، بفعل ضرورات ونتائج الحرب، لا أقل ولا أكثر..!!

ما كان ملفتاً أيضاً أن النساء اللواتي وصلن إلى مجالس المحافظات والمدن والبلدات إنما وصلن على “قوائم الوحدة الوطنية”، أي تلك التي تقدمها مرشحو “البعث”، بمعنى أن الفوز جاء بترتيبات مسبقة، والملفت أكثر أن تمثيل المرأة كان الأدنى في المحافظات التي كانت محسوبة “آمنة” أو “هادئة” أو “مستقرة نسبياً”، والتي يفترض أنها كانت الخزان البشري الاستراتيجي في المعركة ضد الإرهاب، أي أن حضور المرأة فيها كان، طوال سني الحرب، طاغياً، بل وأعطت الحرب هذا الحضور دفعة استثنائية؛ عدا عن حقيقة أن مجتمعات أغلب هذه المحافظات تبقى مجتمعات ريفية رغم أنها شهدت دفعة “تمدين” قوية خلال العقود الماضية، وعرفت مستويات تعليم عالية؛ ونقصد أن دور ومكانة المرأة استمرا ثابتين في ثقافتها المتوارثة، وقد كانت المرأة تحظى فيها بتمثيل أوسع من قبل، في مختلف الإدارات والمؤسسات، فلمَ تحدثُ الحرب مفعولاً عكسياً؟

لقد أعطت جميع الحروب الوطنية، وفي مختلف المجتمعات، مداً قوياً للمرأة خلال وبعد الحرب، وقلدتها مسؤوليات ومهام لم تكن متاحة أمامها، لا لشيء إلا بفعل تقسيم العمل الجديد خلال فترات الأزمة، وهذا ما حصل في أمريكا وألمانيا واليابان والاتحاد السوفييتي السابق ما بعد الحرب الثانية، وفي مصر والجزائر وفلسطين والعراق وسورية في معارك الاستقلال، حيث التقاليد الذكورية الواضحة لم تمنع المرأة من شغل مواقع قيادية ومتقدمة في صفوف المقاومة والمسؤوليات المدنية، بل وملء مساحات واسعة في الذاكرة الجماعية، فلم نشهد اليوم مساراً مضاداً ورجعياً؟

وبالتوازي مع ذلك، أفرزت الانتخابات عنصراً شبابياً، ولكن علينا هنا أن نتأمل من جديد، فعن أي شباب نتحدث؟ وهل نحن في مهب صراع أجيال؟ علينا أن نعترف، أولاً – إذا أخرجنا شهداءنا وجرحانا ومقاتلينا الأحياء خارج هذه الدائرة المجنونة – بأن هناك شريحة مرشحين – وفائزين – ليست أهلاً للنهوض بأعباء المسؤولية الوطنية، وأن أقل ما يقال فيها أنها متنمرة أو ضحلة وليست معنية بقيمة سورية والعرق الذي بذل في سبيل بنائها، طوال عقود ماضية، لا لشيء إلا لضعف الثقافة السياسية، ولن نقول لتراجع الانتماء.. شريحة من جيل لم يعرف في مراهقته معنى القدوة، وشب على نزعة فردية متورمة، ولا علاقة له بالمشاركة الاجتماعية الحقة، ولا بالشأن العام، إلا من خلال “التسخيف” و”السخرية” و”البذاءة اللفظية”، والتعميم الأخرق.. هؤلاء مستعدون في كل وقت للانقضاض على كل شيء انطلاقاً من فهم مشوه للآخر وللمجتمع ككل، ولدور وأهمية الدولة، ثقافتهم هي ثقافة الغابة السياسية، وهجومهم على الفساد يتوقف عند حدود العثور على “الفرصة”، و”التشبيك” مع أصحاب الحظوة الذي يفتحون لهم الطريق إلى “مغارة علي بابا” المنتظرة.. في الانتحابات وفي غيرها!!

لقد طوينا صفحة الانتخابات، لنسدل الستارة على أمراضنا المجتمعية التي سترافقنا، أو سنرافقها، إلى انتخابات جديدة تحت قوس “الشللية” و”المحسوبيات”، و”العصبوية”، بل و”التشبيح” الذي نسج قناعات لدى بعض مرشحينا بأن ابتعادهم عن مقاعد ومكاتب الإدارة المحلية يعني موتهم الجسدي والمعنوي، وأن خسارتهم، في الترشيحات أم في الانتخابات، تعني هزيمة وجودية لا يمكن تقبلها.. لقد تصرف الكثير من المرشحين – وكثيرون منهم وصل إلى المقاعد البلدية للأسف – على شاكلة الإقطاع السياسي الذي “يجب” أن يرِث ويورّث، لا أن يلتزم بقواعد اللعبة الانتخابية.. ولم يتصور إمكانية وجوده خارج دوائر “الترتيب” والقرار، ودورات الفساد وأموال البلديات، بل وأشهر يعضهم “العصيان” بطريقة ما، مستفيداً من امتداد انغلاق مجتمعات الحرب لـ “تربية” مصالح شخصية، واختراع “أحقيات” تفتقد لأدنى مقومات الشرعية أو الانضباط.

انتهت انتخابات الإدارة المحلية، ولكننا لن ننسى عسر التجربة الديموقراطية في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها كافة مؤسسات الوطن، فالدروس والخلاصات لا تنتهي، ولكن ما ينبغي ألا يغيب عن أذهان المغرورين، أو المغرر بهم، هو أن سورية خاضت حرباً وطنية وانتصرت فيها، وأن من صنع الانتصار الكبير قادر على استكماله وتعزيزه والحفاظ عليه، في كل وقت، وكلما دعت الحاجة!!