“بريتون وودز” على وشك النهاية
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
تواجه الولايات المتحدة الأمريكية أزمة مختلفة تماماً عن جميع أزمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمن خلال تحدي نظام “بريتون وودز”، و”الدور العالمي للدولار” في التجارة الدولية، يمكن لهذه الأزمة الجديدة أن تؤسس لعصر موجه نحو السلع الأساسية مقابل عصر الدولار. وفي هذا الشأن وفرت الصين من خلال التعاون التجاري المنطقي مع أوروبا والشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، منصة تحرص العديد من الدول في هذه المناطق أيضاً على السعي لرعاية مصالحها بناءً على نوع جديد من النظام المالي والنقدي خارج نطاق سيطرة الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
لقد سببت هذه العملية تحدياً للنظام المالي الأمريكي وهيمنة الدولار الشاملة بعد الحرب العالمية الثانية، ففي النظام الذي تأسس في الولايات المتحدة عام 1945 في شكل اتفاقية “بريتون وودز” كانت قيمة أونصة الذهب المدعومة بـ 35 دولاراً أمريكياً، لكن هذا النظام انهار في عام 1970 بسبب نقص الذهب الكافي لدعم الدولار. وفي عام 1971، أنهت الولايات المتحدة إمكانية تحويل الدولار الأمريكي إلى الذهب، وتم استخدام الدولار نفسه لدعم الدولار. وخلال نصف القرن الماضي، تم استخدام الدولار كعملة سياسية واقتصادية وأمنية في التجارة العالمية والتي كان على جميع دول العالم قبولها.
في المقابل، حاولت بكين تقوية اليوان وتحويله إلى عملة عالمية وإنشاء “بترو يوان” من أجل إنهاء هيمنة الدولار. بالإضافة إلى ذلك، وفرت الاحتياطيات اللازمة لدعم اليوان من خلال شراء مناجم الذهب في الدول الأفريقية، كما أسست “البنك الآسيوي” باستخدام “بترو يوان” في تعاملاتها مع روسيا والهند وبريطانيا ودول البريكس، حيث يعتبر البنك الآسيوي الآن منافساً رئيسياً أو حتى بديلاً لنظام “بريتون وودز”.
قبل بدء العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا، كان توسيع الصين لعلاقاتها الاقتصادية مع الدول الأوروبية والآسيوية قائماً على نظام جديد حاولت فيه الدول ضمان ساحة دولية أكثر استقراراً، وحاولت تبني أساليب متعددة الأطراف في المعاملات الاقتصادية من خلال الانسحاب من نظام “بريتون وودز” .
يثير هذا المشهد التساؤل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون قادرة على تحمل تكاليف أزماتها العالمية، وبالتالي التأثير المباشر على ميزة امتلاكها للدولار كعملة احتياطية عالمية.
تجدر الإشارة إلى أنه على عكس أزمات 1997 و 2008 و 2020 ، حين تم إنقاذ النظام المالي الأمريكي من قبل المؤيدون، لكن الآن مع فرض الولايات المتحدة عقوبات شديدة على روسيا والصين وإيران، فإن النظام النقدي والمصرفي للولايات المتحدة سيكون غير قادر على إيجاد حل سهل للخروج من هذه الورطة. لذلك، تواجه أوروبا وأمريكا آثار العمليات التضخمية، ورفع أسعار الفائدة.
في المقابل، نشأ التعاون الوثيق بين الصين وروسيا في العقد الماضي من خلال التفاهم المشترك بينهما حول مصدر التهديدات لمصالحهما، وتقديم تعريف جديد للنظام على أساس فكرة “الشرق الصاعد والغرب المتراجع”. ومع ذلك، يعتقد الغرب أن هذا النظام يجب أن يتغير، وبسبب هذا الاعتقاد، دعمت الولايات المتحدة وأوروبا أوكرانيا لمواجهة روسيا، و زيارة نانسي بيلوسي لتايوان في تصرف استفزازي.
بعبارة أخرى، يريد الغرب إنهاء النظام التعددي الذي جعل بكين وموسكو أقرب إلى بعضهما، ومن خلال استمرار الحرب في أوكرانيا وإثارة التوتر في سياسة “الصين الواحدة”، تنتهج الولايات المتحدة استراتيجية لا يكون فيها أمام بكين وموسكو في نهاية المطاف خيار آخر سوى إرجاء الحرب أو شنها.
و السؤال الذي يُطرح باستمرار ما هو مصير الدولار في هذا الوضع المتقلب بصفته داعماً لقوة الولايات المتحدة؟. في نظام المال العالمي الذي أدى إلى إنشاء نظام “بريتون وودز”، كان الدولار الورقي المنقذ لأزمة الركود الاقتصاديفي الثمانينيات والتسعينيات، ومنتصف القرن العشرين، وحينها أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية سندات أو دولارات غير مدعومة لتعويض العجز في الميزانية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تجابه الآن اقتصاداً تضخمياً مع عمليات سحب مفرطة من الخزانة الأمريكية، وتحتاج إلى المزيد من الدولارات لموازنة عجزها التجاري، لكنها لا تملك ما يكفي من الدولارات، فالظروف المواتية التي قام فيها الشركاء التجاريون للولايات المتحدة، مثل كندا والمكسيك والصين واليابان وألمانيا، بالتصدير إلى الولايات المتحدة وتلقوا دولارات ورقية أو دولارات ائتمانية بالمقابل، لم تعد موجودة بسبب العقوبات أو الركود الاقتصادي الناجم عن حرب أوكرانيا.
في السابق، كان يتم تداول السلع الاستراتيجية، بما في ذلك النفط مقابل الدولار، وكان سوق العرض والطلب على الدولار في توازن. لكن في ظل الظروف الحالية التي يتجه فيها عدد أقل من الدولارات إلى الأسواق بسبب أزمة توفير الطاقة، ولا تميل الدول الرئيسية المصدرة للنفط كما كانت من قبل لتلقي الدولار من الصين والهند، مثل مستوردي النفط الرئيسيين، لن تكون الخزانة الأمريكية قادرة على طباعة المزيد من الأوراق النقدية.
في الحقبة السابقة، اضطرت دول مثل اليابان والصين وألمانيا أثناء الركود الاقتصادي الأمريكي إلى شراء سندات و دولارات أمريكية من أجل منع انهيار الدولار، وانهيار الهيكل المالي العالمي، لدرجة أنهم اضطروا حتى إلى شراء المزيد من السندات عندما انخفضت أسعارها ليتم إنقاذ قيمة سنداتهم.
اليوم في الوضع الحالي، حتى الاقتصادات القوية في العالم لا تستطيع تحييد التضخم الناجم عن الدولار عن طريق شراء السندات أو الاستثمار في الولايات المتحدة. لقد جعل الوضع الحالي للاقتصاد الأمريكي، مع تزايد التضخم والاقتراب من عتبة الركود على وشك الانهيار.
حقيقة لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على اعتماد الصين على الدولار، وأن بكين وموسكو أكثر استعداداً للتعاون مع بعضهما البعض إلى التغيرات السياسية والاقتصادية في الساحة العالمية. لذلك ستواجه مؤسسات”بريتون وودز” تحدياً خطيراً، بالنظر إلى أن الاقتصاد الأمريكي يعاني كثيراً بسبب آثار كورونا، وتكاليف الحرب في أوكرانيا، ووصول عجز الديون والموازنة للولايات المتحدة أيضاً إلى مرحلة الانفجار، مقابل عزم بكين على استبدال الدولار تدريجياً بعملة بديلة أو إزالته باستخدام المقايضة، أو على الأقل عدم تقديم احتياطياتها من العملات الأجنبية إلى وزارة الخزانة الأمريكية.