ستون عاماً على أزمة الصواريخ الكوبية.. الدروس المستخلصة
عناية ناصر
يصادفُ هذا الشهر مرور ستين عاماً على أزمة الصواريخ الكوبية التي بدأت في 8 تشرين الأول عام 1962، ووصلت ذروتها في 14 من الشهر نفسه، حيث تعتبر أول مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، والتي كان من الممكن أن تشعل حرباً نووية.
بعد عدة عمليات فاشلة للولايات المتحدة لإسقاط الحكومة في كوبا -عملية خليج الخنازير وعملية النمس- قامت حكومتا كوبا والاتحاد السوفييتي ببناء قواعد لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى على الأراضي الكوبية رداً على قيام واشنطن في وقت سابق بنشر الأسلحة نفسها في تركيا. وانتهت الأزمة بعدما توصّلت القوتان العظميان إلى اتفاق يقضي بإزالة الصواريخ السوفييتية، ومنصات الإطلاق من الأراضي الكوبية، شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن تتخلّص بشكل سريّ من صواريخ “ثور” و”جوبيتر” المنصوبة في بريطانيا وكلٍّ من إيطاليا وتركيا.
من الطبيعي أن تكون هناك بعض الدروس المستخلصة من تلك الأزمة، والتي هي ذات صلة بأزمات اليوم، ومنها:
أولاً: إن المعضلات الأمنية خطيرة للغاية، فعند قيام دولة ما بخطوات من جانب واحد تدّعي أنها دفاعية، ويتمّ تفسيرها من قبل بلد آخر على أنها هجومية، فإن الدولة الثانية ستقوم بالردّ بطريقتها الخاصة دفاعاً عن مصالحها، مما يؤدي إلى إطالة أمد هذه الحلقة والتي يمكن أن تصل إلى أبعاد دراماتيكية إذا تُركت دون رادع. في حالة أزمة الصواريخ الكوبية، بدأ كلّ شيء بالنشر السريّ للولايات المتحدة للأسلحة النووية في تركيا.
ثانياً: إن سياسات القوة العظمى يمكن أن تؤدي إلى استغلال لاعبين أصغر نسبياً ومعاملتهم كبيادق على رقعة الشطرنج في الصراع العالمي بين اللاعبين الأكبر. وفي هذا الخصوص كانت تركيا بالفعل عضواً في الناتو في الوقت الذي قامت فيه الولايات المتحدة بنشر أسلحة نووية سراً هناك. وبالتالي، كانت ستقوم تلك القوة العظمى بحمايتها في حالة العدوان، وعليه لا تحتاج إلى نشر هذه الأسلحة على أراضيها. ومع ذلك، كانت هذه الدولة الجيوستراتيجية لا تزال تستغل من قبل حليفها كقطعة شطرنج لاكتساب ميزة عسكرية على الاتحاد السوفييتي.
ثالثاً: عندما تتنافس القوى العظمى مع بعضها البعض يصبح العالم بأسره رهينة لتلك القوى، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو بالوكالة. وستكون المخاطر كبيرة بشكل غير مسبوق بالنظر إلى حقيقة أنها تتعلق باستمرار بقاء الجنس البشري، ومع ذلك فإن نسبة صغيرة فقط من سكان العالم -كبار صانعي القرار في كل قوة عظمى- لهم رأي فيما قد يحدث، وهذا يجعل المنافسة بين القوى العظمى غير ديمقراطية حتى النخاع، لأن مستقبل البشرية تقرّره حرفياً قلة من الناس.
رابعاً: إن الحوار القائم على الاحترام كأنداد حقيقيين هو السبيل الوحيد لتهدئة وحلّ المعضلات الأمنية بين القوى العظمى، وخاصة عندما تكون على شفا حرب كما حدث أثناء أزمة الصواريخ الكوبية.
أما الدرس الأخير والأكثر وضوحاً فهو أن الحرب النووية دائماً ما تكون غير مقبولة على الإطلاق، ويجب القيام بكل شيء لمنع حدوثها. وفي هذا الخصوص، يجب بذل كل جهد لتجنّب المعضلات الأمنية بشكل استباقي، وضمان عدم استغلال أي لاعبين أصغر نسبياً، وأن تظل المنافسة بين القوى النووية تحت السيطرة. كما يجب الحفاظ على الحوار أيضاً، لأن تعطيله أو إنهاءه قد يكون كارثياً في أسوأ السيناريوهات.
إن كلّ الدروس المذكورة أعلاه هي ذات صلة بالشؤون المعاصرة، ولاسيما فيما يتعلق بالعدوان غير المبرّر للولايات المتحدة ضد روسيا والصين، وكلاهما قوتان نوويتان، حيث التوسّع المستمر لحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، والبناء الثابت للأنظمة “المضادة للصواريخ” بالقرب من حدود روسيا، ورفض الولايات المتحدة النظر بجدية في طلبات الضمانات الأمنية الخاصة بها منذ أواخر العام الماضي، الأمر الذي دفع موسكو للجوء إلى الوسائل العسكرية لضمان سلامة الخطوط الحمراء لأمنها القومي في أوكرانيا.
يمكن وصف المرحلة الأخيرة من الصراع في أوكرانيا بشكل موضوعي على أنه حرب بالوكالة، وبناءً على ذلك أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوة إلى أنه يمكن أن يلجأ إلى الأسلحة النووية للدفاع عن وحدة أراضي بلاده في أسوأ السيناريوهات، الأمر الذي زاد من المخاطر بشكل كبير، وجعل الرئيس الأمريكي جو بايدن يحذّر من أن العالم على شفا معركة آخر الزمان مرة أخرى كما يُزعم!.
أما فيما يتعلق بالعدوان الأمريكي غير المبرّر ضد الصين، وذلك من خلال تدخلها في منطقة تايوان، وتهديدات ضمنية بتعطيل خطوط الاتصالات البحرية في بحر الصين الجنوبي تحت ستار عمليات “حرية الملاحة” الموصوفة بشكل خاطئ، فكل هذا يهدّد بتجاوز الخطوط الحمراء للأمن القومي للصين في المنطقة، على الرغم من أنه لا يزال من غير الواضح كيف ستردّ بكين في حال حدوث ذلك.
على أي حال، لقد بات النمط واضحاً لجميع المراقبين، فقد أثارت الولايات المتحدة بتهور معضلات أمنية مع روسيا والصين، حيث يتضمن كلّ منها تحركات عسكرية من جانب واحد من قبل الولايات المتحدة التي تدّعي أنها دفاعية، لكن تعتبرها روسيا والصين تحركات هجومية، وهنا تستغل الولايات المتحدة أيضاً اللاعبين الأصغر نسبياً لتعريض الأمن القومي لروسيا والصين للخطر، وقد يؤدي هذا إلى ديناميكيات لا يمكن السيطرة عليها تضع حياة الجميع على المحك.
إن الطريقة الوحيدة لتجنّب ألا تزداد الأمور سوءاً هي أن تدخل الولايات المتحدة في حوار موضوعي مع روسيا والصين باعتبارهما مكافئين حقيقيين، وهو أمر تكره الولايات المتحدة القيام به ذلك لأنه على عكس ما حدث أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، فإن صانعي القرار الأمريكيين مثقلون بمفاهيم التفوق المشؤومة لما يُسمّى بالاستثنائية الناشئة عن انتصارهم على الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، وهم يعتبرون بلدهم القوة المهيمنة العالمية في العالم، وأن دول العالم دون مستواهم.
إن القيادة الحقيقية ليست تنمراً، على عكس ما تعتقده الإدارة الأمريكية الحالية، بل تتطلب تنازلات عملية لتحقيق المصلحة العالمية، والخطوة الأولى نحو هذا المسار هي الدخول في حوار موضوعي مع روسيا والصين على قدم المساواة.