وليد السباعي.. فنان السرد ترك شخوصه باكية ورحل!!
حلب – غالية خوجة
لم تتوقع القصة والترجمة أن يكون هناك كسوف أدبي مع كسوف الشمس لنفتقد أحد الشخصيات المؤثرة في المشهد الثقافي الذي لا يهتم كما يجب بمبدعيه إلاّ بعد وفاتهم، وكم تمنيت لو كرمت الجهات المعنية قامة مثل الدكتور، وليد السباعي، رحمه الله، الطبيب، الإنسان، المترجم، الروائي، والقاص، الذي تميز بطيبة راقية، وبسردٍ منحه بصمته بين ترميز للحدث والمعنى، ليشير بطريقة غير مباشرة إلى ما يريد، وبهذه الفنية يجعل المتلقي قارئاً ومستمعاً منجذباً إلى عوالمه الواقعية السحرية في آنٍ معاً.
ثمة وليدان في حلب، وليد إخلاصي، ووليد السباعي، رحمهما الله، ويمتاز السباعي المولود في حمص 1945، على الصعيد الشخصي، بالمودة الشفافة والوفاء والطيبة منذ عرفته في التسعينيات، وكم يكون سعيداً عندما يناقش حول الإبداع والترجمة بعقل مستنير ووعي لا يقتنع بالجاهز والعادي والاستهلاكي، ولم يكن من أولئك الذين يحبون الظهور، بل كان يفضل العزلة المنتجة في الطب والترجمة والكتابة، ولم يركض وراء أية مصلحة خاصة أو شهرة خاصة، لأنه، باختصار، كان موقناً برسالة يقدمها لا ترحل مع رحيله الفيزيولوجي.
وأذكر في آخر أمسية قدمها في اتحاد الكتاب العرب، فرع حلب، تموز 2021، قرأ قصة “الفنان” بلوحاتها الحدثيّة والنفسية والرموز المتعالقة مع الشبكة الدلالية وشخوصها الطبيعية من الناس والشعراء والفنانين، وشخوصها البيئية والرمزية مثل الألوان والسنابل وإيقاعات الحركة بين الحياة والموت وتسربات الموسيقا الخضراء المتصوفة بين روحه ومناداته لجلال الدين الرومي، ثم دورانه في أعماقه الذاتية بين مونولوغ وديالوغ، وكأن روحاً ما تتحدث من القبر عن مشاهد يحضر فيها أنكر ونكير أيضاً، ليذهب الأسود لا بطيئاً ولا مسرعاً ويحضر الضوء بمولويته المتواصلة.
ترى هل كان وليد السباعي يشعر بأن الحياة ستأخذه إلى فواصلها الأخرى قريباً؟
ربما، وهو الذي امتازت ملامحه بالطيبة، وتمتع بإجادة الألمانية واليوغسلافية اللتين ترجم عنهما عدة كتب أدبية وعلمية، منها رواية “رجال بأربع أصابع” (وزارة الثقافة 1993)، ورواية “الفنار الملعون” (اتحاد الكتاب العرب 1995)، ثم عن دار نينوى بدمشق 2019)، ز:أنطولوجيا القصة السورية القصيرة” (يوغوسلافيا، بلغراد 1994)، و”أنطولوجيا القصة المكدونية” (مركز الإنماء الحضاري 2005)، أمّا من مؤلفاته فنذكر مجموعته القصصية “ما قاله الرجل المتحول (المغرب، دار بعل 2003)، والروائية “بلاد يقضمها الجراد” (الهيئة العامة للكتاب 2008).
والملفت أن رواية “الإصبع الخامس” لمؤلفها ميودراك بولاتوفيتش، وترجمها السباعي، والصادرة عن دار نينوى 2018، جاءت استشرافية لكا يحدث في العالم من عولمة قطيعية تقودها جهات معلومة من أجل المزيد من تفكيك الدول والشعوب للوصول إلى تفكيك العائلة الواحدة، لأهداف قريبة وبعيدة، وهذا ما تراءى لمؤلفها منذ أواسط السبعينيات، معرياً “الإرهاب الممنهج” ضد الشعوب، والذي ساهم في تفكيك الاتحاد السوفيتي، ثم وصل إلى الجحيم العربي، ومنها إشارة فصيحة تختزل أحداث اليوم: “الإرهاب لم يولد هنا.. بل نشأ هناك أولاً.. هناك.. هناك..”.
وتتسم أسلوبية الدكتور السباعي بعدة فنيات، أولاً على صعيد الترجمة، نرى أن الكتب التي ترجمها تقف مع وعيها لتؤكد بأنه لم يترجم حرفياً، ولم يترك لذاته التدخل في الأعمال التي ترجمها.. لماذا؟ لأنه، ببساطة، كان يرجم روح النصوص والروايات والقصص بأسلوب عربي، ربما، أضفى عليه إيقاعات الاختزال التي رآها مناسبة لماهية الكتاب الذي يترجمه، لتظل تحولاته مثل موسيقاها البيئية وهي تعبر إلى لغتنا العربية.
وثانياً، على صعيد الفنيات السردية، نلاحظ عدة جماليات، منها تشبيك الموجود باللا موجود، التداخل بشعرية دلالية بين الخرافة والواقع، إنجاز بنية نصية مثقفة بالمعرفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم، توظيف الحلم والهواجس برمزية مفاهيمية وسوريالية وخرافية، الاعتماد على الإيقاع المختزل للجملة القصصية، مما يساهم في اختزال الوصف الظاهري والاحتشائي، تضمين التفاصيل الجزئية بعالم السرد الكلي، لأن الهدف الكامن هو الإشارة إلى المخبوء في بنية السرد غير المقروءة انطلاقاً من بنية الحياة اليومية المقروءة، والالتفاف على المباشرة بدلالات انزياحية تجعل من اللغة السردية فضاء محلقاً بين المخيلة والذاكرة والأزمنة والأمكنة، مما يجعل المتلقي متابعاً بتشوق لما يحدث الآن في هذه القصة أو الرواية دون ملل، بل إنه يشعر وكأنه شريكاً حقيقياً في التوقعات، وشخصاً من تلك الشخوص التي أراها تخرج من كتبه المترجمة والمؤلفة لتحضر جنازته العابرة إلى المقبرة وأنا أسمعها تبكي مع موكب السيارات العابرة لشوارع حلب التي اختار الإقامة فيها، والموت فيها، ربما لأنها كانت المكان الفسيح لحياته وحيوات شخوصه السردية المتسائلة: هل ستكون هناك جائزة ترجمة وقصة وطب باسم د. وليد السباعي؟