هل يكون الدعم مجدداً “كبش الفدا” وحلاً سحرياً للتحديات الاقتصادية والمالية؟
دمشق – رامي سلوم
ترفع التداعيات الاقتصادية الأخيرة، العالمية منها والمحلية، توقعات تشديد السياسة الاقتصادية الداخلية، ومنها ملفّ الدعم، وخاصة بعد انعكاسات أدوات مواجهة التضخم في دول العالم على أسعار السلع والخدمات، والارتفاع العالمي في سعر صرف الدولار عالمياً جراء التشدّد الاقتصادي الذي تنتهجه البنوك المركزية العالمية في رفع أسعار الفائدة، ما يؤثر جلياً على فاتورة الاستيراد، ويزيد من فرص واقعية المعلومات التي تسرّبت لـ”البعث” عن مشاورات في أروقة مطبخ القرار الاقتصادي تميل إلى تغيير جذريّ في سياسة الدعم الحكومي واستقراره على دعم المستوردات الأساسية من خلال تأمين القطع الأجنبي من المصرف المركزي، ودعم القطاع الصحي، والنقل، والكهرباء.. وغيرها، مقابل تخفيض كبير أو إنهاء للحالة الراهنة التي تستهدف الدعم المباشر عبر البطاقة العائلية.
متطلبات مختلفة
وبرأي مختصين اقتصاديين، فإن المتطلبات والأدوات المحلية لمواجهة التحديات الاقتصادية القائمة، وانتهاج سياسة التشدّد الاقتصادي، تختلف عن المتعارف عليه اقتصادياً في مواجهة هذا النوع من الحالات، بفعل الظروف الخاصة والحرب الجائرة على سورية وتداعيات الحصار، ما يدفع إلى التوجه الجديّ لإعادة الإنتاج وتوفير القروض الميسّرة له بفوائد بسيطة أو معدومة، وخاصة بالنسبة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتخفيض مخاطر القيمة الفعلية لتلك القروض بفعل اختلال سعر الصرف، والكساد الاقتصادي العالمي الذي أشارت له العديد من التقارير العالمية، ومنها تقرير البنك الدولي، الأمر الذي يتطلّب رؤية مختلفة للاقتصاد السوري وحلولاً بحجم المواجهة، وفقاً لمحللين.
وأشار اقتصاديون إلى أن سياسة الدعم الحكومي، تواجه مزيداً من الضغوط على فاتورتها المتضخمة، بفعل تعديل سعر الصرف في المصرف المركزي، واختلال سلاسل التوريد، والتضخم العالمي في أسعار المواد الذي وصل إلى حدود الـ 29%، وفي كلف النقل والشحن، وسعر برميل النفط، فيما عدا الفوائد الإضافية على قيمة المستوردات بفعل ظروف الحصار وإحجام شركات نقل بحري عن حمل المواد إلى الموانئ السورية خوفاً من العقوبات الأمريكية الجائرة، وعواقب خروجها من التغطية التأمينية في المياه الإقليمية السورية، وهي العوامل التي أدّت إلى تحكم شركات وناقلات معينة بأسعار الشحن، وإضافة رسوم غير اعتيادية عليها للقبول بنقل البضائع ومواجهة العقوبات، ما أضاف تكاليف وأعباء جديدة على الاستيراد.
ويبدو واقع توافر القطع الأجنبي جلياً في الإجراءات الحكومية وتقييد المستوردات وغيرها، فضلاً عن إعادة النظر في ملف الدعم وتوجيهه بما يسمح باستمرارية تقديمه للفئات الأشد احتياجاً وفقاً للنوايا المضطربة البيانات، والذي من الممكن العمل على استبعاد هذا الملف نهائياً، نتيجة ما يُنعتُ به من هدر وتربح غير مشروع، وحقيقة وصوله لمستحقيه لمصلحة عدد من السيناريوهات البديلة، وفقاً للاقتصاديين.
عواقب عدم النهوض
وعليه لا يمكن غضّ الطرف عن أن الأوضاع المالية العالمية أثرت بشكل ملموس على الأوضاع المحلية، حيث اشتدت تلك الأوضاع المالية العالمية في ظل استمرار البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة، ووسط بيئة عالمية تشوبها درجة عالية من عدم اليقين، كما حدثت زيادة كبيرة في المخاطر المحيطة بالاستقرار المالي في الآونة الأخيرة، ما دفع البنوك المركزية العالمية إلى انتهاج سياسة التشدّد النقدي والإصرار على مواجهة التضخم الذي بات خارج السيطرة على حساب مستويات الكساد والتداعيات الاقتصادية الأخرى، حيث رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بحدود 3%، مع توقعات باستمرار هذه السياسة ورفع سعر الفائدة لما فوق 4.75%، ما يؤشر إلى زيادة كبيرة في فاتورة استيراد السلع الضرورية، وارتفاع أسعارها عالمياً، خاصة وأن كامل البنوك العالمية تتبع إجراء الفيدرالي مباشرة لعدم ترك فجوة في الفائدة تؤثر على فقدان السيولة ونزوح رأس المال من بنوكها إلى البنوك الأمريكية.
وعلى الصعيد المحلي، ورغم تشابك الاقتصاد المحلي مع العالمي، أكد الخبراء والمحللون خصوصية الاقتصاد الوطني في الكثير من المفاصل، مركزين على الإنتاج بوصفه أول الحلول للواقع السوري، مع الاعتراف بصعوبات تواجه العملية الإنتاجية، وضغوط اقتصادية ومالية لإعادة إقلاع القطاع الإنتاجي، غير أن عواقب عدم النهوض بالعملية الإنتاجية ستكون أكبر من أي خسائر أخرى، وفق رأيهم.
تبويب.. واختصار
من جانبه، أفاد الخبير الاقتصادي زياد عربش أن واقع الاقتصاد العالمي ومعركة كسر العظم بين روسيا والغرب من خلال ما يُسمّى الحرب الأوكرانية، والتي جاءت بعد سنوات وباء كورونا، انعكس جوهرياً وسلبياً على فاتورة الاستيراد والاقتصاد السوري الذي هو بالأصل يعاني من تراكمات عديدة من تبعية الحرب وتكالب الدول المعادية، واستهدافها الآن للدول الصديقة التي تعاني أيضاً من الحصار، وكلّ ذلك – وفقاً لعربش – يدفع إلى توقع استمرار الحكومة في إعادة تبويب الأولويات واختصار الدعم وإن كان بالحدّ الأدنى على الشرائح المستحقة فعلياً، علماً أن زيادة الضغوط وانتهاج سياسة التشدّد الاقتصادي ستؤدي لإعادة تموضع منظومة الدعم ككل، بمنظوماتها الفرعية والأساسية، والتركيز على دعم الصحة والسلع الرئيسية وغيرها، وتغيب الدعم المباشر على الرغم من الآثار السلبية لهذا الإجراء على الطبقات المتوسطة وذوي الدخل المحدود.
أسس المواجهة
وأشار عربش إلى أن المواجهة لا بدّ أن تعتمد أساساً على تدعيم الاقتصاد السوري الوطني، وخلق البنية الإنتاجية اللازمة، والدفع بعملية الإنتاج بشكل جوهري وزيادة العرض من السلع والخدمات من الإنتاج المحلي مع استهداف تخفيض جوهري في التكاليف وأسعار المنتجات، ما يتطلّب العمل على عدة محاور مهمّة، لافتاً إلى أن أهم المحاور هو الانطلاق باستعمال الطاقة البديلة والمتجدّدة بشكل حقيقي وتنفيذ المشروعات والبدء بالجني منها في أقصى سرعة، حيث باتت تشكل الطاقة 50% من كلفة أي منتج.
عربش دعا إلى وقف الهدر بجميع أشكاله بإجراءات جبرية وتنفيذية محكمة الصياغة، ومنح القروض التي وصفها بالميسّرة جداً، مع فترة سماح طويلة الأجل ومن دون فوائد للتمويل الصغير والأصغري وللفعاليات الاقتصادية، واستجلاب شريحة الشباب والأيدي الرشيقة لدفع العملية الإنتاجية، وتعزيز الابتكار والرؤية العصرية، مشيراً إلى أهمية تفعيل روافع المجتمع المحلي (التبرعات)، وتحسين الجباية من خلال منظومة الضرائب الفعلية والعادلة، واستعمال منظومة الدفع الإلكتروني، مع الابتعاد عن الحلول التي قد تخلق زيادة تضخمية وتتسبّب بزيادة الأعباء على المنتجين والفعاليات الاقتصادية، والحذر من شلّ الحركة الاقتصادية من خلال التشدّد غير المبرّر والمخالفات غير المنطقية التي تستهدف إغلاق تلك المنشآت وليس تصحيح أوضاعها.
حتى المتقدمة تعاني..!
في هذا الإطار، لفت الخبراء إلى أن الاقتصاديات المتقدمة والصاعدة على حدّ سواء، تواجه مخاطر ومواطن ضعف متضخمة عبر مختلف القطاعات والمناطق، والنظم المالية، حيث بلغ التضخم الآن أعلى مستوياته مقارنة بعدة عقود سابقة، مع استمرار تدهور آفاق الاقتصاد في كثير من المناطق، والمخاطر الجغرافية- السياسية المزمنة، مؤكدين وجود مواطن ضعف مالي كبيرة تواجه الحكومات، التي يتحمّل كثير منها ديوناً متزايدة، وكذلك المؤسّسات المالية غير المصرفية مثل شركات التأمين وصناديق معاشات التقاعد وصناديق التحوط وصناديق الاستثمار المشترك، فيما عدا تصاعد أسعار الفائدة والضغوط التي تعاني منها الكيانات ذات الميزانيات العمومية المثقلة بالأعباء.
تلك العوامل حدّت من السهولة والسرعة اللتين يمكن بهما تداول الأصول بسعر محدّد في بعض فئات الأصول الأساسية نتيجة لتقلب أسعار الفائدة وأسعار الأصول، ما أثر على العملية الاقتصادية بشكل واسع، فضلاً عن السيولة الضعيفة التي اجتمعت مع مواطن الضعف القائمة من الأصل، ما أدى إلى تضخم المخاطر المصاحبة لدوران العملية الاقتصادية والإنتاجية وإعادة تسعير المنتجات.
انعكاسات علينا..
وفي سورية كما في بلدان أخرى يحجم المستثمرون عن ضخ استثمارات مالية كبيرة في اقتصاديات جامدة وحالة كساد بارزة، ما يزيد التوترات الاقتصادية الناجمة عن زيادة تجنّب المستثمرين للمخاطر في الآونة الأخيرة، وسط أجواء يسودها ارتفاع عدم اليقين بشأن الاقتصاد والسياسات، وخاصة مع هبوط أسعار الأصول المالية بفعل تشديد السياسة النقدية، وتدهور آفاق الاقتصاد، وتنامي المخاوف من الركود، وزيادة تكلفة الاقتراض بالعملة الصعبة، وتسارع وتيرة الضغوط في بعض المؤسّسات المالية، إذ تتصاعد بالفعل تكاليف الاقتراض على كثير من البلدان والشركات إلى أعلى مستويات سجلتها طوال عقد أو أكثر.
دعم ولو من خسارة..!
الباحثة الأكاديمية رشا سيروب اعتبرت أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص المعروض من السلع، وعدم تفعيل العملية الإنتاجية، مؤكدة أهمية تأمين متطلبات الاستثمار في الإنتاج من خلال فتح القروض الميسّرة رغماً عن التوجهات المالية التي ترافق حالة التضخم عادة من خلال التوجّه للإقراض بفوائد وتكاليف مرتفعة، غير أن واقع الحالة السورية يختلف تماماً، ولا بدّ من دعم مفاصل معينة بالكامل ولو من خلال خسارة كتلة مالية لمصلحة الفوائد والعوائد المجزية على الاقتصاد وحركة الأعمال عموماً ما يعيد رأس مال السوق ويوفر السيولة مجدداً، آملةً عدم وضع شماعة الدعم بوصفها السبب الرئيسي لجميع المشكلات الحكومية، وخاصة في حال كانت تلك التوجهات عن قناعة وليست للاستهلاك الإعلامي، وبالتالي يظهر الابتعاد عن لبّ المشكلة والتي هي في الأداء الحكومي الاقتصادي، لافتة إلى أن الإنفاق الحكومي لا يتعدّى 10% من مجمل الإنفاق الاستهلاكي.
الطلب المحلي قادر
وأوضحت سيروب أنه لا بدّ من تغيير النظرة الاقتصادية حول الإنفاق الحكومي وعدم النظر للإنفاق الاجتماعي على أنه كتلة مالية، لافتة إلى أن الرؤية المختلفة هي توصيف المشكلة بنقص الإيرادات، وبالتالي البحث والعمل عن حلول لزيادتها، وليس تقليص النفقات الضرورية لتصل إلى خنق عناصر الإنتاج الرئيسية وزيادة فاتورة الاستيراد.
وأكدت سيروب أن الطلب المحلي قادر على تحقيق القيمة المضافة والربحية للمنتجات بسبب النقص الحاد في الأسواق، وبالتالي لا بدّ من العمل على تحقيق الاكتفاء المحلي أولاً وتصدير الفائض من خلال السلع ذات الجودة المطلوبة، ومعالجة خروج القطع من خلال الحفاظ على القطع الوارد بالإنتاج المحلي، والاستثمار الحقيقي، مع اعتبار المواطن هو البوصلة الحقيقية لأي عمل اقتصادي، والتخلص من احتكارات الاستيراد وما يعرف بحيتان الأسواق وإدراجهم في المنافسة الواقعية.
أما بعد..
لا شكّ أن المرحلة الحالية تعتبر من أخطر مراحل الكساد العالمي الناتج عن نقص السيولة وضعف الاستهلاك وليس عن الكفاية، بفعل ضغوط اقتصادية مركبة تتسم بدرجة كبيرة من الحدة في الأسواق الواعدة – أي الاقتصاديات النامية الصغيرة نسبياً في العادة – حيث تواجه تحديات مدفوعة بمزيج من تشديد الأوضاع المالية، وتدهور الأساسيات الاقتصادية، وارتفاع درجة التعرّض لمخاطر تقلب أسعار السلع الأولية، حيث لا يزال المستثمرون يميّزون بين اقتصاديات الأسواق الصاعدة، خاصة وأن الكثير من الأسواق الواعدة يتعرّض لمخاطر التعثر في سداد الدين السيادي، مقارنة بالأسواق الصاعدة الكبرى التي تتمتّع بقدر أكبر من الصلابة في مواجهة المخاطر، ما أدى لانسحاب المستثمرين من الاقتصاديات النامية، وغيرها أيضاً.