استياء فرنسي لن ينهي التبعية!
عناية ناصر
انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر صحفي عقب قمة الاتحاد الأوروبي في وقت سابق من شهر تشرين الأول الحالي الولايات المتحدة، لبيعها الطاقة والغاز لأوروبا بأربعة أضعاف السعر، قائلاً: “ليست هذه هي الصداقة”، مذكّراً الرئيس الأمريكي جو بايدن بعدم اللجوء إلى “المعايير المزدوجة”.
ونشرت وكالة “تي إف آي غلوبال”، ومقرها في الهند، مقالاً في 18 تشرين الأول بعنوان “انسوا الولايات المتحدة وروسيا، الحرب الباردة جارية بين فرنسا والولايات المتحدة”. ما يعني أن الغرب يحاول جاهداً تصوير وحدته وسط الصراع الروسي الأوكراني، وأن فرنسا لا تحمي هيبة الولايات المتحدة، الأمر الذي يكشف التناقضات العميقة في العلاقة عبر الأطلسي.
من ناحية أخرى يبدو أن المصالح العملية لأوروبا والولايات المتحدة في صراع متزايد، حيث ارتفعت أسعار الطاقة العالمية بشكل حاد، ودفعت واردات الطاقة المكلفة منطقة اليورو إلى تزايد العجز التجاري. والأسوأ من ذلك أن المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يواصل رفع أسعار الفائدة، ما يمثل ضغطاً كبيراً على البنك المركزي الأوروبي، حيث انخفض اليورو إلى ما دون التكافؤ مع الدولار في أدنى مستوى له منذ 20 عاماً. علاوة على أن الأهداف الإستراتيجية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ليست واحدة، فالولايات المتحدة تتحد مع حلفائها لحماية هيمنتها، وهذا ليس طموح الاتحاد الأوروبي الذي يريد بناء سياسته الخارجية بناءً على مصالحه الخاصة، بدلاً من الانحياز إلى جانب في منافسة القوى الكبرى، وتلك هي القوة الدافعة الرئيسية لماكرون للتأكيد على الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا.
لكن مع استمرار الصراع في أوكرانيا، فإن أوروبا تدفع إلى زيادة اعتمادها على الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وعليها التضحية بمصالحها الاقتصادية مقابل ضمانات أمنية، إذ يبدو أنه لا بديل أمام أوروبا سوى السماح للولايات المتحدة بفرض تكلفة الصراع الأوكراني عليها باستمرار، مما عرض استقلالها الاستراتيجي لخطر كبير.
تستمر الولايات المتحدة بتصعيد الأزمة الأوكرانية بلا هوادة، وذلك من أجل تعزيز سيطرتها على أوروبا، ما أدّى إلى وضعها في مواجهة صعوبات اقتصادية أكبر، وعلى شفا حرب أكثر خطورة. لذلك، لا تعبّر تحذيرات ماكرون للولايات المتحدة عن مخاوف كبيرة بشأن تفاقم الأزمات المستقبلية فحسب، بل أيضاً عن عجز ماكرون وعدم قدرته على التحكم في مصير فرنسا، فضلاً عن دعوة قوية لأوروبا لتعزيز وحدتها.
لدى فرنسا بالطبع أسبابها الخاصة للعب دور “المعادي للولايات المتحدة”، فهي كانت تتمتّع سابقاً باستقلالية الدول العظمى، حيث كان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول قد دعا إلى أن تلتزم فرنسا بسياسة خارجية مستقلة، وألا تكون رهينة بالكامل للمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ولهذا السبب قرّرت فرنسا ذات مرة الانسحاب من القيادة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي، لتصبح أول قوة غربية كبرى تقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية.
رغم أن فرنسا كانت من دعاة التكامل الأوروبي، إلا أن صعود قوة ألمانيا، وكذلك أزمة الديون الأوروبية منحا ألمانيا فرصة لقيادة أوروبا، لكن ترك المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل لمعترك السياسة، قدم الفرصة لفرنسا لمحاولة الهيمنة على السياسات الأوروبية الداخلية والخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، لدى ماكرون احتياجاته السياسية الخاصة، فهو يعتبر إحياء فرنسا مسؤوليته الخاصة، والعمل على تعزيز الإصلاحات داخلياً، والسعي من أجل وضع فرنسا كقوة عظمى خارجياً، لكن على الرغم من إعادة انتخابه، إلا أنه فشل في الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان، حيث كانت أجندة الإصلاح الداخلي محدودة بسبب عرقلة المعارضة. ولذلك يحتاج ماكرون إلى تحقيق بعض الاختراقات في التكامل الأوروبي والقضايا الدبلوماسية الأخرى من أجل تعزيز حكمه.
إن التناقض بين فرنسا والولايات المتحدة، أو بين أوروبا والولايات المتحدة، هو أكثر من تناقض في المعسكر الغربي، نتيجة للتوزيع غير المتكافئ للسلطة والمصالح. ورغم ذلك، فإن خيبة أمل فرنسا تجاه الولايات المتحدة لن يكون لها تأثير كبير، فهي لن تغيّر من هيكل التبعية المهيمن بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولن توجّه ضربة أساسية للنظام المهيمن للولايات المتحدة. في المقابل من المستحيل أيضاً أن تتخلى فرنسا عن المكاسب المؤسسية للغرب، لكن استياء ماكرون تجاه الولايات المتحدة سيؤدي إلى حدّ ما إلى بعض المتغيرات في العلاقات عبر الأطلسي.
على سبيل المثال، عندما يُعقد اجتماع مجلس تكنولوجيا التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في كانون الأول القادم، سيجد الجانبان صعوبة أكبر في التنسيق مع بعضهما. بالإضافة إلى ذلك، عندما يكون هناك صراع تجاري بين أوروبا والولايات المتحدة في مجال السيارات الكهربائية، فإن ألمانيا ستقف بالتأكيد إلى جانب فرنسا، وهذا يعني أنه سيتمّ تجسير الخلافات العميقة بين فرنسا وألمانيا، وستتخذ أوروبا موقفاً أكثر صرامة تجاه الولايات المتحدة.