“نقيق”.. عرض مسرحي شعري فني راقص رمزي مدرسي تجريبي لا زمكاني!
تمّام بركات
الداخل إلى مسرح الحمراء يخال نفسه مخطئاً في المكان، وفي الوقت الذي يجلس فيه ليلتقط أنفاسه قبل الخروج للبحث عن مسرح الحمراء، يسمع شعراً، وبعدة أصوات متشابكة، وطالما أن هناك شعراً عن دمشق لنزار قباني ومحمود درويش، فلابد أن تحضر فيروز.. وفعلاً تحضر، لأنها “تحب دمشق” هي وسعيد عقل والملحن، وربما لو الزمان والمكان يسمحان، لكان كلّ عشاق دمشق اشتركوا.. ثم مباشرة ودون إبطاء يُضيّع وقت المتفرج، يشاهد رقصاً تعبيرياً لامرأة بلباس حريري خفيف، تتمايل برشاقة نحلة، في الطرف المقابل من الخشبة، وبينما يحاول صاحبنا الربط بين الشعر والرقص، ثم بينهما وبين وصلة الإثارة البريئة، مضافاً لما سبق، الموسيقا الإيقاعية، الملائمة لعمل من نوع “بوليسي – نفسي”، تنتصب أمامه شاشة عرض سينمائي، في أعلى ومنتصف الخشبة، وتقع مباشرة فوق الخشبة الصغرى الموضوعة على المسرح، تظهر على الشاشة مشاهد رمزية لدمار وضفدع، ثم مشاهد أخرى لوجه الممثلة “ريم زينو” بعد أن تمّ البت “إخراجياً” بأنه “حرام”، ولا يجوز، ومن غير المعقول ألا يرى الجمهور ومعه من يحضر من مخرجي الدراما التلفزيونية، تعابير وجهها على الخشبة، بسبب ظروف الرؤية في المسرح، فتمّ وضعه في مشاهد تعبر كشريط إخباري بالأبيض والأسود، وفعلاً يظهر وجه الممثلة نضراً، شاباً، جميلاً، ما كان لجمهور المقاعد الخلفية أن يراه، لولا هذا الحلّ الديناميكي.
نعود للداخل إلى مسرح الحمراء، الذي يظن نفسه أخطأ بالمكان، فهو يقصد العرض المسرحي “نقيق” الحائز على “جائزة التأليف – الهيئة العربية للمسرح”، لمؤلفته روعة سنبل، أعدّه للخشبة وأخرجه عنها، المخرج المسرحي القدير عجاج سليم.. إنه لمعذور أن يظنّ نفسه مخطئاً، خصوصاً في ظل الإرباك الحاصل على الخشبة، من الازدحام الذي أحدثته الفنون هناك عليها! فنون متداخلة بحكم وجودها بالمكان نفسه والزمان والفضاء، لا بحكم الحكاية أو ما تبقى منها، إلا أن هذا التداخل اللحظي بينها، هو أيضاً لحظة لتجلي القطيعة، والمطلوب من التناوب السريع بين الفنون على الخشبة، ثم الفصل بينها دون مبررات لا درامية، ولا غيرها، إرباك الجمهور، ولقد نجح فعلاً أيما نجاح في ذلك! خصوصاً وأنها أيضاً تنفصل عن مزاج العرض العام، وتغرد وحيدة في رمزية متطرفة، مغرقة في ذاتها، غير مفهومة: ضفدع متكلم، ويقيم حواراً مع الشخصية، الضفدع ضمير الشخصية؛ الشخصية التي هي ولكنها ليست هي! وراقصة منهمكة بحالها، تؤدي ببراعة لكن دون معنى لما تقوم به، رمزية مفرطة وبلا معنى، أوقعت “نقيق” في تغريب لا ينتهي! حتى المذهب الرمزي وأعتى متطرفي التعبير به، يربطون الرمز بدلالة مفهومة ومتفق عليها عند الجمهور، ولو ضمنياً في الدراما، وربما كان من الأفضل عوض توزيع “بوستر العرض” توزيع شروحات المخرج، عن دلالات ما سيشاهد الجمهور من ألغاز، طالما أن العرض لم يستطع أن يفعل ذلك، وهذا لا يعني شروحات نهائية، فربما في العرض التالي، تتغيّر الشروحات كلياً أو جزيئاً، لا أحد يعرف، فللتجريب مفاجأته التي لا تنتهي!
بصرياً، الخشبة كانت جميلة، حالمة، مشغول عليها بجهد واضح لتظهر كذلك، إن كان في الإضاءة الخافتة، أو في الألوان التي يغلب عليها “البيج” مع تنويعات عليه، وهو مناسب لأجواء الرومانس، أكثر من “النفسي”، إلا أن هذا الشكل لا يمكن ربطه بالمضمون، فالأخير ليس مفهوماً ولا واضحاً، على الأقل بالنسبة للجمهور! وما لا يصل للجمهور، يبقى حيث هو، هذا بند متفق عليه، وممضّ من كلّ الأطراف، بالعقد المبرم بين الفنون والجمهور، حتى في الفنون التجريدية جداً، النحت مثلاً، فما بالنا بالمسرح! الذي لا يفضّل “التجريد” عموماً، ولو أخذنا بالاعتبار، أن “نقيق” جاء على مبدأ: الشكل هو المضمون، لكان يمكن صياغة ملخص لحكاية العرض على الشكل التالي: عدة شخصيات على المسرح، تتفنّن بالجمهور!
عدا عن أداء وليد الدبس، في تقديمه دور الضفدع، بالإضافة أيضاً إلى الأداء الراقص الملفت لـ أليس رشيد، بغضّ النظر عن كونه موظفاً أم لا، لا شيء مسرحياً لافتاً في “نقيق”: ما من دراما تقع، ما من حبكات تقبض على المتلقي، رغم أن محاولة “الإبهار” البصري لم تتوقف، من السينوغرافيا، إلا أن العرض أفلت إيقاعه من زمنه، ثم وقع زمنه، بعد أن انفصلت الحركة، عن الخط العام الناظم للحكاية – ربما بسبب غيابها وليس بسبب حضوره – لينفصل العرض برمته، عن زمنه البالغ 55 دقيقة، والمدة هنا لا تعني شيئاً بالنسبة لـ “نقيق”.. يعني كان يمكن أن تكون الـ 55 دقيقة، 30 دقيقة، 41 دقيقة. وهكذا، وهذا يعود لسبب جوهري فات المخرج -ربما لتعامله مع نص أساساً أدبي، ولا يصلح للخشبة، إلا بشروط فنية مختلفة تماماً، ولنوع مربك مسرحياً كـ “الفانتازيا” – وهو أن الوحدات الثلاث الشهيرة، يستحيل أن تتحقق بغياب البنية الدرامية، وعرض “نقيق” ليس لديه بنية درامية، كما أن الأداء الذي جاء متفاوتاً وبلا انسجام، والذي عوّل عجاج سليم على جعله الرافعة للنص الركيك، لم يحقق أي حالة تواصل مع “الحيط الرابع.. حرفياً”، وكأنه غير موجود، وما نقصده بالتواصل بالتأكيد ليس المباشرة في هذا الفعل، الذي أفرط “البريختيون” في استخدامه حتى غدا مملاً، بل من خلال الحكاية، التي من المفروض أنها تهمّ الجمهور، أو تمتّعه وهذا أضعف مهام وأشغال، فن جسيم كفن المسرح.