ما بين الولايات المتحدة والصين
ريا خوري
ما يزال الصراع الدولي يسير وفق اتجاهات متعدّدة من أجل تغيير منظومة قيادة العالم، فمع اشتداد الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية على قمة النظام العالمي التي وصلت إلى ذروتها في المجال السياسي والاقتصادي والتكنولوجي، لا تزال الولايات المتحدة مصرّة على الاعتماد المتزايد على القوة العسكرية والاقتصادية والأمنية الإستراتيجية سبيلاً وحيداً، من خلال العقوبات الاقتصادية القاسية التي تفرضها على كلّ من يعارض مصالحها وإستراتيجيتها، والحصار بالأحلاف العسكرية حول العالم، وإثارة الأزمات المتتالية بالمناورات العسكرية الاستفزازية في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، والكشف الصريح والمباشر عن نوايا التخلي عن مبدأ الصين الواحدة الذي كان الأساس لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة في مطلع سبعينات القرن الماضي، بالإعلان عن الدفاع عن جزيرة تايوان في حال قرّرت الصين استعادتها إلى الوطن الأم.
إن آفاق الصراع المحتدم تتجه نحو مزيد من التأزم، خصوصاً مع إصرار الصين على استعادة الجزيرة، وهو ما أكده الرئيس الصيني شي جين بينغ في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير، وإعلانه الصريح القيام بإجراء إصلاحات جريئة ونوعية للدفاع الوطني والقوات المسلحة، وإعادة هيكلة القيادة العسكرية الصينية وأنظمة القيادة ونظام القوات المسلحة الحديث، ونظام السياسة العسكرية، في إشارة واضحة وصريحة للموقف الصيني من مساعي الولايات المتحدة، للدفاع عن جزيرة تايوان، لتحريضها على الاستقلال النهائي.
من الواضح تماماً أن أدوات إدارة الصراع بين الولايات المتحدة والصين تختلف بشكل جذريّ، إذ إن القيادة الصينية تستخدم الصبر والانتظار الطويل، وعدم الاستعجال بانتظار استكمال برنامجها الاقتصادي والعسكري والأمني الاستراتيجي، وتحاول الالتفاف على محاولات حصارها والتضييق عليها واستفزازها، بخطوات مدروسة دراسة وافية وشاملة من دون الوصول إلى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة، وتستخدم في ذلك منهج الدبلوماسية الناعمة في علاقاتها الخارجية، وعلاقاتها الدولية الواسعة التي نجحت فيها إلى حدّ كبير مع مختلف دول العالم، وقيامها بالعديد من المبادرات الاقتصادية والإنمائية الواسعة الانتشار في العالم، مستندة في ذلك إلى حضارة عميقة ضاربة الجذور في التاريخ البشري، هي الأقدم في العالم، وإلى إرث طويل خالٍ من الاستعمار والحروب والاستغلال، وإلى انتهاج سياسة الحياد في علاقاتها الدولية الواسعة.
ومع تكريس زعامة الرئيس الحالي شي جي بينغ كقائد تاريخي خلفاً للمؤسّس ماو تسي تونغ، فإن جمهورية الصين عازمة على المضي قدماً في إصلاحاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية الاستراتيجية، وفي معركة المنافسة الحقيقية، لقيام نظام عالمي جديد يكون لها دور كبير فيه، وذلك في مواجهة الولايات المتحدة التي تستند فقط إلى تاريخ يعود إلى أكثر من مئتين وخمسين عاماً، وإلى قوة عسكرية مفرطة ومدمرة، لجأت خلالها إلى شنّ أكثر من خمس وتسعين حرباً، بداية من غزو نيكاراغوا عام 1833، مروراً باحتلال كوبا عام 1917، ثم غزوها عام 1961، وصولاً إلى الحرب الفيتنامية الدامية، وغزو بنما، وفرض القوة العسكرية المفرطة وغزو أفغانستان، ثم العراق والمساهمة في ضرب ليبيا وسورية ولبنان.
يُذكر أن كلّ حروب الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين انتهت بالفشل، من دون أن تحقق أهدافها في استمرار السيطرة والهيمنة، بل على العكس من ذلك فقدت معظم مواقعها القديمة والجديدة في معظم دول العالم جرّاء سياسات تقوم على دبلوماسية البوارج والمدفع، والتلويح بالعصا والجزرة والعقوبات القاسية الصارمة، وهي أساليب تُواجه بالرفض والغضب من قبل الحلفاء الأصدقاء!.