حواس الموسيقا وموسيقا الحواس
غالية خوجة
نتوارث الموسيقا من خلال نبضات أمهاتنا ونحن أجنّة، وهذه النبضات تشكّل اللا وعي الموسيقي لدى كل إنسان، مما يجعلنا ماءً لموسيقا الحواس وحواس الموسيقا داخل رنين لا وعينا المتناغم أو المتناشز، لذا ينصح العلماء الزوج الاهتمام بزوجته الحامل وجنينه المحمول، وينصحون الحوامل الاهتمام وزوجها بجنينهما لتنمية هذه الإيقاعات بأسلوب فني تعكسه المحبة في العلاقة الزوجية ومحيطها، وتسمعه إيقاعات الكلمات الطيبات، ولذلك، أول ما يسمعه المولود منا هو الآذان الذي يُطمئن المولود آنَ وصولهِ إلى هذه الحياة الدنيا، وتكون أمه قد أسمعته وهو جنين ما تيسّر من القرآن الكريم، والكلمات الجميلات المتداولات في بيت العائلة، والموسيقا الهادفة إلى تكوينه بإيقاعات إنسانية راقية، تستمر مع الهدهدات الأولى وتأثيراتها الموسيقية المطَمْئِنة للرضيع.
ولهذه الموسيقا حواسها المتناغمة مع موسيقا حواسنا كمؤثرات غير مادية تساهم في تشكيل تكويناتنا العميقة من روح ونفْس وقلب وجسم وجسد، وتنعكس على تصرفاتنا كمؤثرات مادية تمتصها الذوات والبيئة والمحيط الاجتماعي والحياة.
والإنسان المؤثر ليس من هؤلاء الفقاعات الإلكترونية الافتراضية، بل هو ذاك الإنسان الذي يترك عطره أثراً موسيقياً على الوردة والجدار والطفل والصديق والجار والعائلة والمجتمع، حتى لو لم يكن مشهوراً، لأنه لا يبحث، بكل تأكيد، عن الشهرة، بل عن الأثر المعطّر بالسمعة الطيبة حالما يغادر عالمنا الأرضي.
ولن يكون الأثر هارمونياً إذا لم تكن الذات هارمونية، مضيئة بجمالياتها الجوانية، فتحيا الحياة وتعاملات الحياة بإبداعية لا يستطيع محوها الحقد والكراهية والحسد، لأن هذه المنظومة أوهن من بيت العنكبوت، ولأن هذه التناغمية المشرقة هي من أصل الإنسان وفطرته وأمشاجه ومائه الأولي.
هذه الحواس المتوارثة موسيقياً، وفي حالة تفعيلها بصورتها الجميلة، تتفتّح كأرواحنا يومياً مهما كانت ظروفنا سرمدية ورمادية، بل تجعلنا نرقص مع الأمطار التي تهطل الآن في مكان ما من العالم، ومع البراري وهي تمضي مع الفصول، وتذكّرنا ببيت شعري للمتنبي محبّب للجميع: “لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً، فالطير يرقص مذبوحاً من الألم”، والرقص والألم والأثر حواس موسيقية يدركها الأشخاص المتمتعين ببصيرة مفتوحة على الجمال وإبداع الجمال، وهذا ما يبصره شهداء الوطن، وجرحى الوطن، والجنود المجهولون للوطن، والمحبون لما يقومون به دون أدنى مكسب شخصي، والمحبون بتفاعلات موسيقية لعائلاتهم وأهاليهم وذويهم وأقربائهم وأصدقائهم وللناس.
المحبة موسيقا ترسو في القلب وتعكسها أفعاله، تماماً، كما تفعل الشمس في يوم حصاد صافٍ يتناغم معه الفلاحون والمزارعون وهم يتماوجون مع السنابل غناءً وكأنهم في لوحة تشكيلية عالمية لم يرسمها فنان بعدُ، أو يتماوجون في مشهد طبيعي لم نره على أية منصة مسرحية بعدُ، وهذه اللوحة المشهدية المغنّاة مع معزوفات الفراغ القريب والبعيد تظلّ مرفرفة بنغماتها مع موسيقا الحنطة وتراتيل الدقيق المختلطة مع ترنيمات الماء والملح والنار ومحبة الصانع لتصير الإيقاعات رغيفَ خبز يصونه مَنْ يصون الخبز والملح، على عكس إنسان آخر يجعلنا نقول: يبدو أن خبزنا بلا ملح! وكأنّ الألحان الداخلية السوداء العمياء لا تتصادف مع الألحان الزاهية بكل علاماتها البيضاء، فهل تستطيع الألحان محْوَ الألحان؟
نحن لسنا جسماً فيزيائياً فقط، بل موسيقا أيضاً، وكل منا يختار أبجديتها وعلاماتها لحياته، فيضيف على ما ورثه “نوتات” أكثر جمالاً، ويجرب أن يكون جملةً موسيقية لن يكتبها أي موسيقار آخر سواه.
ترى، ماذا تسمع، الآن، من نبضاتك وقلبك وعقلك ونفسك وشرودك وتأملاتك وأفكارك ومخيلتك وصمتك وصوتك وسلوكك وأثرك وأحزانك وأفراحك وآلامك وآمالك وأحلامك وواقعك وحياتك وأهدافك وحضورك وغيابك ومستقبلك؟