ثقافةصحيفة البعث

مدن ومجتمعات لفظت مبدعيها ثمّ كرّمتهم

نجوى صليبه 

بسبب إحدى قصائده، أصدرت محكمة عراقية حكم الإعدام بحقّ الشّاعر العراقي مظفّر عبد المجيد النوّاب (1934 – 2022)، الملقّب بـ “شاعر القصيدة المهرّبة”، فقضى زمناً في السّجن وهرب منه. وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين، فعاد إلى سلك التّعليم، ثم غادر بغداد إلى بيروت في البداية، وبعدها انتقل إلى دمشق، وظلّ يسافر بين العواصم العربية والأوروبية ليستقر به المقام في دمشق ثم بيروت، لكن لم يكتب له أن يرحل في أي منهما، بل كانت الشّارقة الشّاهد الأخير على أنفاسه الأخيرة بعد صراع طويل مع المرض.

وعلى متن طائرة الرّئاسة، عاد النّواب ملفوفاً بعلم بلاده التي لفظته في بداياته وقدّرته بعد مماته بإقامة مراسم رسمية بحضور رئيس الوزراء “السابق” مصطفى الكاظمي، وحشد كبير من المشيعين من مختلف الأجيال، وفور وصول جثمانه إلى مقرّ اتّحاد الكتّاب العراقيين، قال النّاطق باسم الاتّحاد عمر السّراي: هذا الاستقبال الكبير لا يعني الأدباء فقط بل يعني المواطنين، فهو شاعر شعبي وليس شاعر نخبة.

وفي الغناء، يروي الموسيقار محمد عبد الوهّاب (1898 – 1991) في إحدى المقابلات الإعلامية تعرّضه للإحباط مراراً، بدءاً من رفض أسرته المُحافظة دخوله مجال الفنّ وهروبه من المنزل، إلى غنائه مع فريق سيرك “حيّ الشّعراني” وانتقاله معهم إلى دمنهور، ونومه على حصيرة الحيوانات.

وتتحدّث مراجع عدّة حول العلاقة التي جمعته بالشّاعر أحمد شوقي، الذي استنكر واعترض على احتراف الصّبي الغناء في سنّ صغيرة والعمل في الليل، بعد أن شاهده يغنّي في فرقة عبد الرّحمن رشدي، وتسبّب حينها شوقي بطرد عبد الوهّاب من الفرقة، ولم يجتمع فيه أو يسمعه يغنّي إلّا بعد عشر سنوات، كما تتحدّث مراجع أخرى حول تنكّر القاهرة له ولموهبته في بداياته، وتحديداً نتحدّث هنا عن مشاركته في عرض “شهرزاد” لسيّد درويش، ويومها كانت المطربة حياة صبري تغنّي معه، ولاقت استحسان الجمهور وتصفيقه الحادّ، وعندما تقدّم عبد الوهّاب للغناء رفض الجمهور الاستماع إليه، مطالباً بعودة صبري إلى المسرح.

ولم يكن سيّد درويش (1892 – 1923) بأفضل حال من زميله وصديقه عبد الوهّاب، فقد سبقه إلى سوء استقبال الموهبة والتّنكّر والنّكران والمجابهة، وفي المدينة ذاتها –القاهرة- وفي أول حفلة له في مقهى “الكونكورديا”، وقدّم حينها الدّور “الحبيب للهجر مايل” بطريقة مختلفة، وغريبة عن المألوف، فانسحب من الحضور كثير لاعتقاده بأنّ هذه الموسيقا أجنبية وتهدد الفنّ العربي الأصيل، وبقي قليل يدرك أهمية الجديد الذي يقدّمه درويش في مستقبل الغناء العربي.

وفي المسرح، لم تعد قصّة الدّمشقي رائد المسرح العربي أبو خليل القبّاني (1833 – 1903) خافية على أهل الثّقافة والمعرفة والبحث، فقد اضطر في بداياته إلى الاستعانة بصبية لأداء دور الإناث، الأمر الذي استنكره بعض المحافظين في المدينة وشكوه إلى الوالي لإنهاء “المهزلة”، بحجة أنّ الشّباب يمثّلون أدوار الفتيات ما يدعو بشكلٍ واضح إلى التّخنّث، ومعهم من تضرّرت مصالحه من دور الغناء الجديد، لذلك سارعوا بإبراز أمر سلطاني بوقف مسرحه، لكنّهم تمادوا أكثر وأحرقوا المسرح بأكمله، غير أنّهم لم يحرقوا الأمل والطّموح ولو أنّهم أثّروا لفترة قصيرة لكنّه عاد وبقوّة أكبر وانتقل إلى مصر وساهم في ولادة المسرح الغنائي فيها، وهناك أيضاً لم يستكن الحسّاد لنجاحه وتميّزه، فأعادوا المأساة ذاتها وأحرقوا مسرحه في القاهرة، صدمة لم يكن ليقدر على تحمّلها أبداً وعاد إلى دمشق وتوفّي فيها، ولن نتحدّث عن مكانته ودوره الفاعل والرّائد في المسرح والموسيقا العربية، ولا عن ذكره الذي لا يزول مع الزّمن سواء في الدّراسات أم العروض أو الاحتفاليات.

نكران المدن – أو مجتمعاتها – لمبدعيها ليس جديداً، حاله حال أي ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو أدبية، متأصل ومتجذّر بأي مجتمع، وإن عدنا بالتّاريخ أبعد من ذلك، نستذكر الفيلسوف والطّبيب ابن رشد (1126 – 1198)، فبعد تولّيه القضاء عام 1169 في إشبيلية ثم في قرطبة، تمّ تعيينه طبيب الخليفة “أبو يعقوب يوسف” الخاصّ، وطبيب ابنه المنصور من بعده، وبسبب مكانته الرّفيعة التي تبوأها حاك له الحسّاد والماكرون ونُفي وتلامذته، وأحرقت كتبه، وهُدّد من يقرأ كتبه بعقوبات قاسية، وعاش في المنفى سنتين قبل أن يتبّين السّلطان الحقيقة وبطلان التّهم السّياسية والفكرية التي حيكت ضدّه والمستندة إلى تحليل خاطئ لأعماله، ويرسل في طلبه، ويعفو عنه، ثمّ يتوفّى في مراكّش وينقل رفاته لاحقاً إلى قرطبة، ولابدّ من التّنويه أيضاً بأنّ هناك خلافاً على وصفه بالفيلسوف، فبعض الباحثين ينزعون عنه هذه الصّفة ويعدّونه شارحاً فقط، وفي هذا ظلمّ لا يقلّ عن الظّلم الذي تعرّض له من أبناء زمانه.

أمثلة كثيرة لا يسعنا ذكرها جميعاً، لكنّها ظاهرة يجب الوقوف عندها مطوّلاً، لعلّنا نخفّف من محاربة بعضنا الآخر، ونتوقّف عن شتم بعضنا الآخر بألفاظ لا تمتّ للأدب أو الثّقافة بصلة ونتعالى على “تشليف” الاتّهامات المهنية منها والأخلاقية، والتي غالباً لا تأتي إلّا من ضعاف النّفوس والفكر وأصحاب المصالح الخبيثة أو أصحاب مقولة “المهم أن نصل إلى الهدف” بغضّ النّظر عن الطّريقة والأسلوب سواء أكان خيّراً أم سيّئاً، ولعلّنا ندرك أنّ “طقطقة البراغي” اليوم ستنقلب علينا في الغدّ، هذا على مستوى الفرد فكيف بنا على مستوى مجتمع يفترض أنّ لديه طموحاً بتطوير ذاته وحياته وثقافته وفكره، وهو غالباً ما يطلق شعار دعم المواهب وتقديم الفرص لمن يمتلكها، لكنّه في الوقت ذاته يصرّ على اتّباع موروث غير مشرّف.

كنت أتساءل دائماً: هل حقّاً التّاريخ يعيد نفسه أم نحن من نعيده؟ وأجد أنّنا بأخطائنا نعيد التاّريخ بل ونجترّه مراراً وتكراراً ومن دون أن نعضّ أصابعنا ندماً أو نذرف دموعنا ألماً!!