أهمية الانتخابات والاستئناس لبناء المجتمع السياسي الوطني
د.عبد اللطيف عمران
نحن اليوم في زمن، وفي مجتمع، أغلب مسؤوليه ومؤسساته عرضة للانتقاد والتطلع المستمر إلى التغيير، فالمزاج العام مزاج انتقادي وهذا إن لم يكن من المظاهر السلبية، فهو من غير البنّاءة. فهل هذا المزاج وليد الحرب على سورية، أم أن السوريين معروفون وماهرون بهذه الملكة التاريخية، أم أن الواقع الوطني والعربي والدولي يوطّد هذا المزاج في الأنفس؟!
صحيح، إن المجتمع السوري – والعربي أيضاً – يمرّ اليوم بإشكالية لم تكن معهودة منذ قرن مضى من الزمن، هي مع الأسف إشكالية وعي ونكوص في أغلب تجلياتها، فالثورة في القرن الماضي غير الثورة في هذا القرن من حيث بنيتها ووظيفتها ووسائلها وداعموها. والأقطار العربية التي أنجزت بنجاح حركة التحرر الوطني والاستقلال العربية من الاحتلالين العثماني والأوروبي هي اليوم لا تعرف هذا التحالف والتعاضد والوحدة لا على المستوى الوطني ولا القومي، بل تعيش نقيضه .
فهل الانتخابات على المستوى الشعبي ، والاستئناس على المستوى الحزبي من الأسباب؟
لا يوجد قطر عربي اليوم إلا لديه مشكلة -مستدامة- في الانتخابات، ويبدو أننا نحن كنا سبّاقين إلى تجربة ربما تضائِل من وطأة هذه المشكلة فاخترعنا طريقنا الخاصة إلى ترسيخ التجربة الديمقراطية فعزّزنا الانتخابات بالاستئناس، وربما نبحث في الغد عن تعزيز الاستئناس بالوعي؟!. وللصحفيين تجربة لافتة في هذا المجال، ففي مؤتمرهم الأخير فاز زميلهم أولاً في الاستئناس، ورسب ثانياً في الانتخاب، وذلك انطلاقاً من مبدأ (تحميل القواعد مسؤولية الاختيار).
لقد اتضح منذ سنين أن هذه القواعد لم تعد تستطيع حمل هذه المسؤولية، ولا جدال: فإنها لن تستطيع، ولهذا أسباب … منها ما يظهر من قول أغلبها: في هكذا ظروف، فالمركزية الديمقراطية أهون علينا من الديمقراطية لأننا نريد الحفاظ على ما تبقى من وحدتنا المجتمعية والوطنية. وبالمقابل فـ (تكريس مسؤولية القيادات أمام قواعدها) في الانتخابات المتكررة أدى في كثير من الأحيان إلى كسر بعض أرجل الكرسي، فصُدمنا أكثر من مرة بالكرسي وبالتكريس، وهذا لا يُغني أبداً عن استمرار الحوار للوصول إلى تجربة ديمقراطية واعية عن طريق الانتخاب بين قطاعات الشعب والاستئناس في مؤسسات الحزب.
إن (حرص قيادة الحزب على تطوير التجربة الديمقراطية) في الحزب والمجتمع والدولة أمر مشروع وضروري ومشرّف وواضح، وهو مسعى نبيل، لكن القيادة، ورغم حرصها الواضح والدقيق والمتعِب، قد آلمها أن تنظر إلى سيل (ردود الأفعال المتباينة حول المعايير والآليات والنتائج)، فلا بد من تجاوز هذا التجاذب والتباين بجرأة وشجاعة طالما عرفهما حزبنا بمؤسساته وكوادره. ومن هذا القبيل ينظر أكثرنا بأمل واعد إلى تأجيل اجتماع اللجنة المركزية للحزب الذي كان مقرراً السبت القادم بعد أن وزّعت ورقة عمل فيها من الموضوعية والجرأة والطموح والنقد الذاتي ما يستحق الترقّب والتفاؤل أيضاً، ولا ضير في التريث بهدف مزيد من الحوار والمراجعة النقدية.
رفاقنا في قيادة الحزب يقولون: ردود أفعال متباينة. والواقع هي أكثر من متباينة، ولا سيما حين القيام بالفصل من الحزب، والإعفاء من المسؤوليات، والاستبعاد… والحديث عن (تدخل المال السياسي – أعتقد الانتخابي أفضل– في الانتخابات).
في مطلق الأحوال تسعى قيادة الحزب والدولة بشكل حثيث ومتواصل إلى بناء المجتمع السياسي الوطني، وإلى تحرير الأرض والإرادة، ويلقى هذا السعي قبولاً من الشعب، فكانت ولازالت وستبقى التضحيات الجسام والتاريخية مستمرة خلف القيادة الحكيمة والشجاعة للرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد، ولا بديل سياسياً ولا اجتماعياً في الواقع الصعب اليوم للنهوض بهذا السعي عن حزب البعث، فلازال القوة السياسية والحزبية والشعبية الأكثر حضوراً على امتداد ساحات الوطن رغم ما أصاب وحدتيه التنظيمية والفكرية من جراح عميقة ينبغي أن تُضمّد ولا تبقى فاغرةً نازفة تنزّ ألماً وشكوى.
إن نتائج الانتخابات اليوم كتقليد أصيل، والاستئناس كتجربة طارئة منذ ثلاثة عقود تقريباً يبدو لم تعد ترضي كثيراً من القواعد ولا القيادات، فما أسباب عدم الرضى هذا؟
لا شك هناك خلل كبير أو صغير – سمّه كما شئت – اعترى وحدتي الحزب التنظيمية والفكرية وهذا مالا يجب القفز فوقه بل الواجب والضروري معاينته ومعالجته، وإننا لقادرون ومعنا تطلعات جماهير شعبنا وحزبنا، وأمتنا أيضاً وكذلك أحرار العالم وشرفاؤه .
أما مسألة الوحدة التنظيمية في الحزب فهي في متابعة مستمرة وقد حققت نتائج مقبولة وقابلة لمزيد من التحسّن والفاعلية لكن – في هكذا واقع – تكتسب الوحدة الفكرية أهمية أكبر ولا سيما أن أعداءنا قصدوا ضربها أولاً، ضرب البنى الفوقية (الفكر والوعي والهوية والانتماء)، قبل ضرب البنى التحتية (المنشآت).
فالوحدة الفكرية هي التي ترسّخ موقع الحزب وموقفه في بنية المجتمع والدولة، ولدعمها نتجه نحو تفعيل الحوار داخل الحزب فهناك ترابط عضوي بين الفكري والسياسي والاجتماعي حين تستجيب البنية الفكرية للحزب لمتطلبات اللحظة التاريخية. فلا بد من تحليل إخفاقات بعض مقولات المنطلقات النظرية أو الفكرية للحزب في غير قليل من المجالات بسبب متغيرات الواقع وتأثيرات محركات البحث وغزو الفضائيات والسوشيال ميديا المنفلتة. فالإطار النظري لبناء الدولة – الوطن والأمة – والمجتمع في أدبيات الحزب التاريخية لم يعد صالحاً تماماً، ولا يمكن لأي برنامج سياسي أو تنفيذي تحقيقه اليوم.
والوحدة الفكرية في أي حزب ومجتمع تجابه اليوم تحديات منها: إن الواقع غالباً ما يثبت أنها افتراضية ومرحلية في عصر التكنولوجيا الرقمية، وإنها مرهقة بالنوَسان بين التنوع والانغلاق، وبين الايديولوجية والبراغماتية. ومنها أن هناك من يرى أنها تقف عائقاً أمام حيوية العقل والانفتاح والإبداع.
إن الواقع المتجدد وباستمرار يجب أن ينتج تياراً فكرياً متجدداً، وإذا لم يكن واحداّ فعليه أن يكون موحِّداً. وبهذا تكون تجربة الاستئناس، والانتخابات حرة نزيهة، فاعلة وواعدة.