د. فؤاد المرعي بين حكاية الجمال ومسرحة السرد والخيال
حلب – غالية خوجة
الصمت يجلس قرب كتب د. فؤاد المرعي التي ألّفها وترجمها، مستذكراً سيرته التي بدأت مع مولده في حلب، عام 1938، وحصوله على الإجازة ثم الدبلوم في اللغة الروسية وآدابها (جامعة لومونوسوف الحكومية في روسيا)، لتبدأ رحلته مع اللغة الروسية مبحرة في عوالم الكثير من الأدباء الروس، منطلقة من أطروحته التي طبعت كتاباً “المرأة في مجتمع الأبلوموفيين”، ليكون بذلك قد رفع الشراع مع الأدباء الروس في القرن التاسع عشر، وحالات المرأة في ذاك القرن الذي عبر إلى نصفه الثاني مع أطروحته “تصنيف الأدب الروسي في القرن التاسع عشر في أعمال الديمقراطيين الروس”، حيث نال الدكتوراه على هذه الدراسة، عام 1973، باختصاص “النقد الأدبي الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر”. ثم ليبدأ رحلته في كلية الآداب بجامعة حلب، متدرجاً في عدة مناصب تدريسية، ملتفتاً إلى التأليف والترجمة في مختلف المجالات من فلسفة ونقد واقتصاد وسياسة وفكر وأخلاق وجمال، إضافة إلى الأعمال الأدبية الموجهة للكبار والأطفال والتي تجاوزت الستين عملاً، ومنها نذكر: “المدخل إلى الآداب الأوروبية”، “في تاريخ الأدب الحديث: الرواية، المسرحية، القصة”، “الجمال والجلال”، “بحوث نظرية في الأدب والفن”، “مسيرة الآلام” (تولستوي)، “الجريمة والعقاب” (ديستويفسكي) التي نقلها مباشرة عن الروسية إلى العربية دون أية لغة وسيطة.
كلاسيكية البسيط العميق
المربي المعلّم الكاتب والمترجم فؤاد المرعي اتسم باستيعاب الآخر، وتشجيعه على متابعة مواهبه، والتلطف بإيصال آرائه، إضافة إلى صيغته للأبعاد الجمالية بمنظوره الأقرب إلى البسيط العميق، سواء في مؤلفاته أو مترجماته التي يختارها بشكل أو بآخر، وتكون مناسبة، كلاسيكياً وحداثياً، وذلك ما نلاحظه في خطه البياني الذي انطلق من القرن التاسع عشر ليصل إلى القرن الحادي والعشرين مع عوالم التكنولوجيا والفضاء الافتراضي المعاصر من خلال ترجمته لرواية “الفتاة والآيبود” (فالينتينا نازاروفا، 2022)، الأقرب إلى الرواية البوليسية المتمحورة حول الموسيقا واختفاء أخت البطلة في بريطانيا، وذهابها للبحث عنها والكشف التدريجي التشويقي عن اختفائها، وستتحول هذه الرواية إلى فيلم سينمائي مستقبلاً.
أمّا أهم ما يميز د. المرعي فنياً فهو السلاسة الجاذبة في الكتابة والترجمة، والاهتمام بالتفاصيل النفسية والزمانية والمكانية والبيئية، والاقتراب من عالم مسرحة السرد، وسردية المسرح، ليحكي الحياة بجمال متناغم مع مفهومه للجمال اللغوي والحياتي معاً، إضافة إلى تركيزه على أعمال تختلف فيها البيئة النفسية والاجتماعية والمكانية، لتكون القراءة فضاء للسفر مع الشخوص والأمكنة، ولذلك، يصادف أن نقطع تذكرة مع جيبروفسكي بطل رواية حرية بلا حدود لنصل إلى تنزانيا التي اختارها المؤلف فيكتور ريميزوف ليبحث فيها بطله عن خلاص من متتبعي الأثر الواقعي والافتراضي.
وبينما تتابع الحبكة البوليسية تشويق القارئ مع رواية “يوليا ياكوفليفا” (2021)، وأحداثها التي يظهر فيها الصياد فجأة، نعود بأثر زمني رجعي إلى عصر القياصرة مع رواية “الحديقة” (2022)، للمؤلفة مارينا ستيبانوفا، لتغدو الحديقة مكاناً لحرية المونولوغ والديالوغ والأحداث والأحاسيس المختلفة بين الأمومة والطفولة التي تمثلها الأميرة بورياتينسكي المتزوجة من ضابط فرسان شجاع أطبقت شهرته الآفاق، وينجبان توسا التي تبدو مختلفة عن الآخرين منذ ولادتها، وتتصرف خارج التقاليد القيصرية الصارمة السائدة في منتصف القرن التاسع عشر، لأنها تشعر بأنها إنسان كبقية بني البشر.
ونسافر إلى سيبيريا مع بطلة رواية “زليخة تفتح عينيها” لتضعنا المؤلفة غوزال ياخينيا وجهاً لوجه مع طقس شتائي بارد لا يحتمله بشر، لكنه شتاء حدث عام 1930، لتجد زليخا نفسها في هذا المنفى الصقيعي على ضفاف نهر أنغارا، قرب غابات منطقة التايغا، وتكتشف أنها وأبناء قريتها في عالم مجهول مع أناس آخرين من أصول وأديان وأعمار مختلفة، سيقوا مثلهم إلى هذا المكان الذي تتشعب فيه أحداث الموت برداً وتشرداً ونفياً، خصوصاً، المشهد الذي تودع فيه الطفل يوسف وهو في قوقعة خشبية يبحر بعيداً عنها مع أعوامه السبعة، وكأنها تفتقده في رحلة أبدية، بمشهد تصويري جمالي إنساني، لكن ما يؤرق زليخة ليست المعاناة والفقد والآلام الجسدية والروحية فقط، بل سؤال واحد هو: كيف ستحافظ على حياتها وحياة من تحب؟
طمأنينة وواقع
ولقد أكد العديد من الأدباء الذين عاصرو د. المرعي على امتزاج تفكيره بطريقة حياته، ومنهم الكاتبة ضياء قصبجي التي عرفته شخصية أدبية وتعليمية نشيطة في المجالين، كما أنه كان صديق أخيها الدكتور عصام قصبجي في جامعة حلب – رحمهما الله – وأضافت: وجهه ضحوك، وشخصيته تمنح الطمأنينة للجميع، وأحب من ترجماته الأعمال الكلاسيكية لأنها تنقلنا إلى عوالم شخصيات روسية مستمدة من الواقع، وقريبة من كل إنسان.
مثقف موسوعي
ورأى الكاتب نذر جعفر أن د. المرعي لم يكن أستاذا جامعياً درّس الأدب الأوروبي وعلم الجمال وتتلمذت أجيال عدة على يديه فقط، بل كان مثقفاً موسوعياً، يتصف بعدة خصال، منها صداقته لطلابه وحواره معهم، وشخصيته تتسم بالهدوء وتقبّل الرأي الآخر برحابة.
وتابع: استمرت علاقتي الودية معه منذ كنت طالباً في السبعينيات من القرن الماضي، وتحولت إلى صداقة عميقة بين أسرتينا، وفقده خسارة لأنه لم يتوقف عن الترجمة والكتابة حتى وهو في أقسى حالات المرض، وتلك ميزة العلماء المكابدين للصعاب من أجل الاستمرار في العطاء.