شطرنج وفلسفة وأرميتاج وملاحة في نسبية الحديقة
حلب- غالية خوجة
تتشكّل الفراغات في الحديقة العامة بحلب قدوداً وموشحات متوازنة مع المساحات الخضراء، وللناظر بفنية من خلال “تلسكوبه” الداخلي أن يكتشف الفنيات غير المنظورة، ويشكّلها تبعاً لذائقته الخبيرة قي قراءة المتحولات، ليجد أمامه رقعة شطرنج حيوية تعكس معرضاً طبيعياً لموسيقا الحياة بين زقزقة العصافير واحتضان الأغصان، وانحناءات الغيم مع الشجر، ونصوص السماء المعلقة مثل الرحمة تصل مَن يصلها وتقطع من يقطعها، فتتماوج الأفكار والخواطر مع مشاهد يومية تحدث في كافة أرجاء العالم، ومنها هذه الحديقة كمنصة مصغّرة للعالم، ولربما كان ظلي قربي، لحظتها، كأحد فلاسفة الغشتالتية، ليؤكد للعابرين دينامية الجزئية والكلية، لكن الغالبية غير مهتمة بالفلسفة الآن، فلا وقت لديها سوى البحث عن المزيد من الصمود أمام ارتفاع الأسعار، وتأمين قوت العائلة، والركض من أجل أن يمضي هذا اليوم بصحة وسلام.
ومثل الماضين في متاهات الحياة أمضي في طريقي لتغطية معرض تشكيلي، فأصادف بائع “غزل البنات” وهو يبيع ثلاثة أكياس من السكر الملون بألف ليرة مقتنعاً على عكس ذاك البائع الجشع الذي يتجول حول القلعة ويبيع الكيس الواحد بألف ليرة!
وبينما أعبر مع فصول الأبجدية والكتابة ماحيةً نفسي، إلاّ أنني لا أنجو من عقلي وأسئلته، فأتلفّت حول روحي المتلفّتة حواليّ، لعل الأسئلة تهطل لتسقي الأعشاب وتخفف عن الناس همومهم، فأراني أقف مع شرودي أمام مشهد لرجلين جالسين على أحد مقاعد الحديقة تتوسطهما رقعة شطرنج وهما منشغلان باللعبة بين جندي ووزير وقلعة، ويعكسان حالتهما الحضارية في هذا المكان الذي قد تصادف فيه من يحمل كتاباً ويقرأه مستمتعاً بهروبه إلى عالم آخر، أو ترى الكبار سعداء مع الصغار وهم يتأرجحون مع الألعاب في الحديقة.
اقتربت من الرجلين، وألقيت عليهما التحية، وتعارفنا، وعن هذه الجلسة أجابني أحدهما: اسمي نضال لبق، مهندس ملاحة متقاعد ودليل سياحي مرخص باللغة الروسية، لسنا الوحيدين، ولنا أصدقاء يلعبون الشطرنج، ونوظف الفراغ بما له فائدة، ولدي مكتبة منزلية ضمن اختصاصي بين الكيمياء والفيزياء والكونيات إضافة إلى كتب الفلسفة والأدب والعلوم، إلاّ أن الفلاسفة اليونان تركوا في عقلي إشارات استفهام، أهمها: كيف عرفوا أن المادة مكونة من ذرات؟ ربما، لأنهم انتبهوا إلى تحولات الماء الفيزيائية في الطبيعة.
حينها، سألته: وماذا بين الملاحة والشطرنج والأرميتاج؟ فأجابني: الشطرنج رقعة تعطي فكرة عن تفاصيل الحياة وتعقيداتها لأن أية خطوة على هذه الرقعة هي دفاع أو هجوم، لكنني مع نسبية أينشتاين، لأن أي موقف في الحياة هو نسبي، أمّا الملاحة فتأخذنا إلى رقعة أخرى بين موجة وريح وشاطئ وحلم.
وفي هذا الجو الملاحي السريع بين الحديقة والأفكار والحوار، قال اللاعب الثاني: اسمي عبد الجليل اسكيف مهندس زراعي متقاعد، أجيد الألمانية، وأحب أن أضيف بأن الشطرنج رياضة عقلية متكاملة مع رياضة الروح والجسد والمعرفة والثقافة والطبيعة والرياضيات، وهذا يعلّمنا المسؤولية تجاه أية خطوة واتجاههها سواء على رقعة الشطرنج أو رقعة الحياة، وإلاّ فإننا نخوض المعركة بلا سلاح مناسب، فمثلاً الملك هو القلب، والوزير هو العقل، ولا بد أن يتناغم العقل والقلب لا أن يتصارعا لإنجاز القرار النهائي المناسب.
هنا، تركتهما مع أبطال اللعبة وساحة المعركة، وأكملت طريقي وفي مخيلتي سيمفونيات كثيرة تُعزف على مسرح “البولشوي” وتؤديها فرق “الباليه” المختلفة مع روحي التي تخطفني إلى متحف “الأرميتاج”، متسائلة كم عمراً علينا أن نضيف لأعمارنا كي نمضي ولا نمضي.