تشكيلات الفراغ السرية بين حمامة نوح والهوية
حلب- غالية خوجة
وتستمرُ حكاية لا تنتهي اسمها معرض “كان يا ما كان.. حلب” في ساحة الحطب، لتروي ما يجول بين صدمات الذاكرة والآن والناس والأحلام، بفنيات الفن الفراغي الذي يجعل المتلقي شريكاً ومحوراً في نصوص اللوحات والأعمال التي يقدّمها الفنانون الشباب القادمون من دمشق مع فنانين من حلب والمحافظات والمغترب، فتكتمل اللحظة الماضية مع الحاضرة، وتتحرك مع العابرين والزائرين في إطار الروح وما يتضمنه من تشكيلات للجروح.
الآلام تزهر فناً فراغياً
ولأن “آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون”، كما يقول فاتح المدرس، فإن ما يراه الليث حجو في هذا المعرض الفراغي الواقعي السوريالي المشترك وكأنه “بمثابة لون استطاع إحياء الدهشة بالتوازي مع الألم الممزوج برغبة تحطيم الأقفاص الصماء”.
وتستمر لمعة الآلام التكوينات المدهشة مضاءة بكثير من اللحظات المزهرة من الأعمال الفنية المنتشرة في ساحة أثرية من آثار حلب، كانت، يوماً ما، عامرة بالحياة، وعادت بعد الحرب التدميرية لسورية لتعمّر الحياة، لكنّ الذاكرة ما زالت تنزف أطياف أمهاتنا وآبائنا، رحمهم الله، وأقربائنا الذين رحلوا ولم ترحل أيامهم التي صارت حمامات.
أعباء مضيئة
وبين الأنقاض، أمام جامع شرف الذي رُمّم مجدداً، تلفتنا لوحة “أعباء” للفنانة الحلبية غنى الهلال، بحماماتها الحاملة لمصابيح مضاءة داخل أكياس نايلون شفافة ملونة تشير إلى الإنسان السوري الذي احتمل الحرب والحياة فوق طاقته، لكنه يظلّ يأمل ويعمل.
وعلى بُعد مسافة، قريباً من عوجة الكيالي، تقف لوحة “خط النار” المفاهيمية، ليخبرنا حاجز الفنان الدمشقي إميل عفلق أن هناك حصاراً داخل الحصار، لكنه يترك للفراغ أن يدلنا على معانيه ليكون حصار رحمة ونعمة وبركة، مؤكداً أن الطريق مهما ضاقت ستتسع من جديد.
وبعد هذا الحاجز، تأخذنا لوحة “أبواب” الفنان الدمشقي مجد الحناوي إلى صراعاتها مع القذائف الإرهابية، وما بقي من ملامحها بهيئة آثار زمنية صدئة تشبه أنزفتنا وصرخاتنا وأصوات جرحانا، ورغم كتلتها فإنها تعاني من الفراغ والشلل والرحيل والهجرة والاغتراب، لكنها ما زالت، وبكل صمودها وصبرها، تنتظر ساكنيها ليوقدوا الحياة فيها، تماماً، كما تفعل لوحة الفنان الحلبي أحمد ناصر “صراع”، التي تظهر كمونوغ بين شبح الموت والدمار وإرادة العيش، تلك الإرادة التي تراها الفنانة التشكيلية بثينة علي في لوحتها “إنهم مطر” لأنهم حيث يكونون تنبت الحياة من جديد، أوليسوا حبات المطر تسقي أرضاً جفت؟.
وليس أبعد من جرح، يدخلنا الفنانان الدمشقيان عرابي رزان وملاذ إلى لوحتهما “مشروع عدّ” ليتساقط ريش الحمام على الداخل بانفراد، وكل ريشة رقم، لكننا لسنا مجرد أرقام، بل نحن حمامات سلام يتساقط ريشنا بينما نصنع السلام.
وقريباً من فراغ آخر كان مأهولاً، تتركنا الفنانة دانا سلامة القادمة من ريف دمشق مع عملها الرمزي المتسائل “من أنا؟ من أنت؟ من نحن؟”، لتجيبنا حماماتها: الحب، الأمان، السلام، بينما يبدو أن دخيلاً هجم بهيئة الغراب لينشر الخراب، فنغمض عيوننا، كما تعبّر، لأننا لا نريد أن نرى أو نسمع، لأننا أرواح متشابهة والطرق مختلفة في الأرض والسماء.
عشاء سري
وفي زقاق أثري آخر، تنتصب أرجوحة معلقة في الهواء تتدلّى من أعلاها حمامات وصوانٍ معدنية، ليبدو الفراغ متشكلاً بعنوان “العشاء السري” للفنان الحمصي بيير حاماتي، الذي يشير إلى عشاء عيسى عليه السلام والمحبة رسالته السماوية البانية لكلّ خراب.
وبين لوحة وأخرى، ندخل دوامات الذاكرة كداخل إلى ثقب كوني أسود ليخرج من دورانه لحظةً بيضاء تشبه عش الحمام الجاذب لطيوره مهما رحلوا في لوحة الفنان الحلبي أحمد معتصم خسة، ولتعكس من خلال لوحة الفنانة الدمشقية “جمانة مرتضى” كينونتها “أنا هنا”، لتحكي عن طائرها الأبيض كلمسة ضوء في سمائها، وكأنه الروح الملامسة للوحة وهي تستعيد التنفس، لتفاجئ المشاهد: “أنت داخلها”.
بينما تأتي لوحة “مقص”، للفنانة الدمشقية كنانة الكود، مصحوبة بموسيقا الشجن، لتحكي عن الظلام كمقص للضوء والحمام والسلام، لكن الهديل يستمر رغم الأنين، وبدورها، تبعث الفنانة الدمشقية زينة تعتوع “رسالة” مع حماماتها لتخبر العالم: “ما زلنا هنا رغم كلّ الدمار، تعلو أسراب الحمام فوق سمائنا، تخبرني بما رأت في أسفارها، أنا التي قرأت في طفولتي كيف الحمامة ساعدت نوحاً في الخلاص بعد الطوفان”.