التصريح الذي تحوّل إلى وعد
تصريح أطلقه وزير الخارجية البريطاني الأسبق آرثر بلفور على لسان حكومة “صاحب الجلالة” في بريطانيا، كان سبباً مباشراً لمعاناة ملايين الفلسطينيين من التهجير والحرمان والعنصرية التي مارستها الصهيونية العالمية في فلسطين المحتلة عشرات السنين.
هذا في الظاهر، أما في المضمون، فإن التصريح الذي تحوّل فيما بعد إلى وعد جاء مكتوباً وموجّهاً إلى المصرفي البريطاني وأكبر زعماء اليهود في بريطانيا اللورد ليونيل والتر روتشيلد، في الثاني من تشرين الثاني سنة 1917، الذي ينحدر من أغنى عائلة في العالم، لم يكن قابلاً للتحقّق لولا اجتماع مجموعة من العوامل، أهمها على الإطلاق الوضع في المنطقة العربية.
وأول ما نلاحظه في هذا الوعد أنه جاء من حكومة رأسمالية إمبريالية إلى المنظمة الصهيونية التي يمثلها روتشيلد، بكل ما يحمله اسم هذه العائلة من نزعة إلى الثراء والسيطرة التي لا تزال قائمة حتى وقتنا هذا.
والقول إن مجرّد إطلاق هذا الوعد كان سبباً أساسياً في استيلاء الصهيونية على فلسطين فيه الكثير من التسطيح، فالأمر في ذلك الوقت يعتمد على الكثير من العوامل، منها أن هذا الأمر ما كان ليتمّ لولا خيانة وتواطؤ بعض الزعامات في المنطقة.
فهذا الوعد الذي أطلقه مَن لا يملك لمَن لا يستحق كما نقول، لا يمكن له أن يُنفّذ لو وُجد في الضفة الأخرى من يعمل على محاربته بالفعل، ولكن إذا عكسنا الآية فمن الممكن القول: إن هناك توافقاً صهيونياً مع بعض زعماء المنطقة توّج بإطلاق بلفور وعده هذا، وإلا فما معنى أن تكون تلك الحكومات مصرّة إلى الآن على تمكين الصهاينة من العيش في المنطقة وجعل وجودهم طبيعياً فيها عبر اتفاقيات التطبيع التي تقودها، وعملها التاريخي المستمر على إقصاء الفكر القومي العربي لأنه يشكّل تهديداً وجودياً لها، وبالتالي فإنها راحت تربط وجودها بوجود هذا الكيان الغاصب، وتدافع عنه بكل الوسائل، وليس آخرها مساهمتها الواضحة فيما سُمّي زوراً “الربيع العربي” الذي أريد منه على وجه الحقيقة تدمير الدول العربية الأساسية في مواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة وهي سورية وليبيا والعراق، حتى تتمكّن من فرض التطبيع عليها لتنتقل في علاقاتها مع الكيان الصهيوني من السرّ إلى العلن.
فالقضية إذن ليست مجرّد نظرة عطف ألقتها حكومة صاحب الجلالة إلى هذا “الحلم اليهودي المزعوم”، لأن اليهود على وجه الحقيقة لم يكونوا يعلمون بوجود هذا الحلم، إنه حلم المنظمة الصهيونية التي تسعى بالمحصلة إلى السيطرة على العالم بثرواته، وبريطانيا التي أشرفت على إقامة بعض الأنظمة الرجعية وساعدتها في السيطرة على الحكم هي ذاتها التي أطلقت هذا الوعد.
وكل ما قيل فيما بعد عن قيام الزعيم النازي أدولف هتلر بإبادة اليهود عبر ما تسمّى “المحرقة”، إنما هو بروباغندا يُراد منها على وجه التحديد، شرعنة تهجير المرابين اليهود من أوروبا إلى الأرض الموعودة وتحويلهم إلى محاربين لاستخدامهم وقوداً لمحرقة حقيقية في فلسطين، لأن التحالف الواضح حالياً بين الصهيونية العالمية والنازيين الجدد في أوكرانيا، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن لا تعارضَ مطلقاً بين النازية والصهيونية في الأهداف، فهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يسعيان إلى السيطرة على العالم، والخدمة التي أسداها هتلر للحركة الصهيونية في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما ساهم في نقل عشرات الآلاف من المهاجرين اليهود إلى ميناء حيفا في فلسطين تؤكد ذلك.
طلال ياسر الزعبي